الحاسوب
قال الخليل بن أحمد الفراهيدي عن الآلة الحاسبة، أو: علم الكمبيوتر: “أريد أن أقرب نوعاً من الحساب، تمضي به الجارية إلى البياع، فلا يمكنه ظلمها، ودخل المسجد وهو يعمل فكره في ذلك، فصدمته سارية، وهو غافل عنها بفكره، فانقلب على ظهره، فكانت سبب موته، وقيل: بل كان يقطع بحراً من العروض” (ابن خلكان، ج2، 248).
ولقد مر الحاسب الآلي بمراحل متعددة مثله مثل الأجهزة الأخرى. فمنذ عهد أباكوس أي 2000 قبل الميلاد الذي اخترع جهاز أباكوس للحساب والذي يتضمن مجموعة من العصي المرتبة حسابياً، تسمح بحساب وزن البضائع، ومن ثم نابير عام 1621م، وباسكال 1642م، الذي صمم آلة حاسبة كبيرة الحجم ثقيلة الوزن، تعتمد في حركتها على حركة البكرات والعجلات المسننة، تستخدم لعمليات الجمع ولطرح فقط. ثم عهد بابيج عام 1822م، والذي أطلق عليه لقب أبو الكمبيوتر؛ لأنه أول من اخترع آلة تستطيع أن تخزن البيانات، ثم هوليريث عام 1880م، والذي اخترع آلة للتبويب، استخدمت في مجال الإحصاء السكاني في أمريكا عام 1890م. ثم هاورد عام 1944م، إذ قام بتصميم أول حاسبة أوتوماتيكية رقمية. ثم استمر تطور الحاسبات تطوراً ملحوظاً في عام 1951م، حيث نجح بعض المهندسين باختراع أول حاسب يقوم بتخزين البرامج (سعيد، 1998م، مهدي علي، 1998م).
وارتبطت الحواسيب الآلية منذ ولادتها بالأرقام (عثمان وجاسم، 2013م، 177 وما بعدها، الجبري، 1423هـ، علي (لاتاريخ))، ويمكن وبدقة وصف تلك الأجهزة في بداياتها الأولى بأنها آلات حاسبة، وللمرء أن يتخيل تنفيذ نظام للترجمة الآلية بواسطة آلة حاسبة محدودة القدرات. وأول ما يعني ذلك هو معالجة مواد لغوية بوسائل غير لغوية، وعلى سبيل المثال، فقد نتفق على أن الرقم العشري 5 (ويساوي بالنظام الثنائي وهو ما يتعامل به الحاسوب (101)) نتفق على أن هذا الرقم يمثل الحرف (د) والرقم العشري 6 (ويساوي بالثنائي 011) يمثل الحرف (ز)، والرقم 7 (ويساوي بالثنائي 111) يمثل الحرف (ي)، وبذلك نستطيع أن نرمز الاسم (زيد) باستخدام الأرقام 6، 7، 5، وهذا يعني من وجهة نظر الآلة أنها تتعامل مع أرقام مجردة، ولو طلب من هذه الآلة أن ترتب قائمة أسماء مرمزة رقمياً ترتيباً هجائياً فسوف تتم عملية الفرز على أساس كونها أرقام؛ الرقم الأصغر يسبق الرقم الأكبر في حالة الترتيب التصاعدي، والعكس في حالة الترتيب التنازلي، فمن وجهة نظر الآلة ليس هناك زيد أو عمرو وإنما أرقام مجردة (جامدة).
وبعد تجاوز مرحلة البدايات الأولى والتطور المتسارع في لغات البرمجة والذي مكَّن الإنسان – بفضل من الله – من التخاطب مع الآلة بأوامر قريبة جداً من التعابير اللغوية التي يستخدمها بنو الإنسان، حيث أصبح بالإمكان الحديث عن تمثيل الكلمات والجمل، بعد أن تجاوز الأمر تمثيل الأرقام، ولكن العلاقة بالأرقام لا يمكن التخلص منها بسهولة مهما تعددت الحيل، بل إن ذلك المنحى قد وسم التطبيقات الأولى عند استخدام الحاسوب في خدمة اللغة، وكمثال على ذلك ظهرت برامج إحصاء تردد الكلمات في نص ما، بل ظهرت بعض التطبيقات، والتي تهدف إلى نسبة نص ما إلى كاتب معين، عندما يكون هناك شك في صدق نسبته إليه، والمنطلق في ذلك؛ الاستفادة من إحصاءات محددة كتردد كلمات، أو جمل، في كتابات كاتب ما، وظهور ذلك النص محل التساؤل. كما طالت التطبيقات في هذه المرحلة فهرسة النصوص، بما في ذلك فهارس الأعلام، والأمكنة، بل والمواضيع والإشارات المهمة في نص ما، والذي نعرفه اليوم أن ما تقدم من تطبيقات – وإن اعتبرت سابقاً من ضمن اللسانيات الحاسوبية – إلا أنها لا تعد كذلك في منظورنا الحاضر، وإنما تعرف بأنها تطبيقات حسابية على مواد لغوية؛ ذلك لأن علم اللغة الحاسوبي أصبح له اهتمام بالمعالجة اللغوية المحضة للاستفادة من ذلك في تطبيقات تزاوج بين اللغة والآلة وتحاكي الذكاء الإنساني – ولو بنسبة متدنية – في التعامل مع اللغة، وصدق المولى عز وجل حين يقول: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ([1])﴾.
إن التحدي التطبيقي الكبير أمام لسانيات الحاسوب هو: الترجمة الآلية، الذي كان نقطة البداية (الجبري، 1423هـ)، فقد اهتم الجيش الأمريكي وأجهزة الاستخبارات العالمية في بداية الستينات من القرن الميلادي الماضي بتمويل مشروع للترجمة الآلية، وعلى الرغم من ضخامة التمويل لهذا المشروع والحماس الذي صاحبه إلا أن النتائج الأولى جاءت مخيبة للآمال، لقد كان التركيز وقتذاك على النصوص المجردة، وأغفل دور المعنى وقضايا اللبس، مما أثر سلباً على المشروع ومخرجاته، والتي اقتصرت على الترجمة على مستوى الكلمة، وهي نتائج لا يمكن أن يرضى عنها أولئك الذين بنوا طموحات أكبر، وأثبت الواقع أنها من ضروب الخيال. أُوقِف تمويل ذلك المشروع في منتصف الستينيات من القرن الميلادي الماضي، وصدر تقرير عن الأكاديمية الوطنية للعلوم في العام 1966م، ولا نبعد في القول إذا قلنا: إن هذا التقرير قد وأد الوليد في مهده، وصرف أنظار الكثيرين عن النظر في إمكانية الترجمة الآلية، لينتظر الباحثون عقدين من الزمان، حدثت فيهما متغيرات كثيرة، وأعادت الآمال القديمة والطموحات السابقة (الجبري، 1423هـ).
ولعل العامل الأكبر في تقديم لسانيات الحاسب، يعود إلى تغير النظرة للحواسيب، من أجهزة معالجة رقمية إلى أجهزة تمثيل للبيانات بعامة، وبالنظر إلى أن لغات البرمجة من المستوى العالي؛ مثل: لغة فورتران، تدفع بالمستخدم إلى التفكير بطريقة رياضية (رقمية)، فقد كانت الحاجة تدعو إلى وجود لغات أكثر تحرراً من تلك القيود، وفي السياق التاريخي لهذا العلم الوليد ظهر في العام 1971م، برنامج كتب بلغة لسب (وهي من لغات الذكاء الصناعي)، يستطيع الإجابة عن بعض الأسئلة في نطاق محدد باستخدام مستوى محدود من التحليل اللغوي (shrdlu)، وكان هذا البرنامج دليل على إمكانية استخدام تقنية الحاسب الآلي في التحليل اللغوي متى ما توفرت لغات البرمجة المناسبة.
والمشكلة التي تلازم لغات البرمجة المعتادة (المستوى العالي) هي اعتماد الأسلوب التسلسلي التفصيلي في إعطاء التعليمات التي تقود إلى التنفيذ، واستناداً إلى هذا المنطق، فإن الأمر بفتح باب مثلاً، والذي يفهمه الإنسان بعبارة واحدة، يحتاج إلى سلسلة من الأوامر تبدأ مثلاً بتحديد اتجاه الباب، ومن ثم المسافة إلى الباب، وخطوات فتحه مفصلة تفصيلاً مملاً، حتى تكتمل المهمة، ولا شك في أن هذا الأسلوب البرمجي الممل لا يناسب معالجة اللغات الطبيعية (وأحياناً يطلق عليها اللغات الفطرية ويقصد بها اللغات الإنسانية كالعربية والإنجليزية والفرنسية والصينية… إلخ. وهي بخلاف اللغات الصناعية والتي هي في سياقنا هذا تعني: لغات برمجة الحاسب الآلي، مثل: لغة سي، وباسكال، وفورتران، وكوبول… إلخ)، وقد جاء الحل عن طريق أبحاث الذكاء الصناعي، والذي يهدف إلى محاكاة قدرات الإنسان باستخدام الآلة (الحاسوب)، وذلك عن طريق تطوير لغات برمجة لا تلتزم بالأسلوب التسلسلي الصارم، وإنما تعتمد على برمجة القواعد والمبادئ وتمكين المستخدم من إجراء المقارنات، واستخلاص النتائج، مثل: لغة لسب أو لغات برمجة المنطق، والتي تمكن المستخدم من توصيف مشكلته بصورة منطقية مع التركيز على ما هو مطلوب بدلاً من توصيف طريقة الحل، وذلك مثل: لغة (برولغ)، وهذا المنحى يحاكي المفهوم الإنساني لتعلم اللغة عن طريق وصف القواعد، وإتاحة المجال أمام التوليد باستخدام تلك القواعد.