جوانب الصوت اللغوي وطبيعته، وخصائصه

 

الصوت اللغوي أثر سمعي يصدر طواعية واختيارًا عن تلك الأعضاء المسماة: أعضاء النطق، والملاحظ أن هذا الأثر يظهر في صورة ذبذبات معدّلة وموائمة لما يصاحبها من حركات الفم بأعضائه المختلفة، فالمتكلم لابد أن يبذل مجهودًا ما كي يحصل على الأصوات اللغوية.

ويستنتج من ذلك أن الصوت اللغوي له عدة جوانب -كما سبق القول- منها:

الجانب النطقي: ويتصل بأعضاء النطق وأوضاعها وحركاتها.

الجانب الفيزيائي: ويتصل بتلك الآثار التي تنتشر في الهواء في صورة ذبذبات صوتية تصل إلى أذن السامع فتحدث فيه تأثيرًا معينًا.

الجانب السمعي: وهذا الجانب له جهتان: جهة فسيولوجية خاصة بأعضاء السمع، وجهة عقلية أو نفسية خاصة بالعمليات النفسية التي تتبع إدراك السامع للأصوات. وفي هذا المستوى نحن معنيون بالجانب النطقي على وجه الخصوص؛ لأنه الأساس في كل دراسة صوتية لغوية، ولأنه أقرب منالًا واستيعابًا لكل دارسي اللغة. إضافة إلى أنه الجانب الأكثر دقة في تقديم المعايير والخصائص التي يمكن الاعتماد عليها في تعيين أصوات اللغة وبيان طبيعتها وماهيتها، وموقع كل منها في بنية اللغة.

ولا يعني هذا بحال إهمال الجانبين الآخرين، فهما المعنيان بتصنيف الأصوات إلى طوائفها المختلفة من وقفات، واحتكاكيات، وشديدة، ورخوة .

وهذه الدراسة النطقية للأصوات لا تعني الدخول في تفاصيل كل الآثار النطقية الصادرة عن جهاز النطق عند الإنسان وجزئياتها الدقيقة، فهذه الآثار لكثرتها تكون سلسلة من الأحداث الممتدة في سلسلة متصلة الحلقات بحيث يصعب الوقوف على بداية هذا الصوت أو ذاك، أو على نهايته، ولسنا ننكر أن دراسة هذه الآثار لها أهميتها وقيمتها في الدرس الصوتي في عمومه، ولكنها دراسة فونيتيكية محضة، تُعنى بالجانب المادي للأصوات وحده، ولا تتأكد هذه الأهمية وتلك القيمة ما لم يعمد الدارس إلى تجريدها والوصول منها إلى وحدات ذات دور فاعل في البناء اللغوي، وبيان معانيه ودلالته.

وللعلماء العرب في القديم إشارات وأفكار تنبئ بوضوح عن إدراكهم لجوانب الأصوات النطقية والسمعية، وإن كان جل أعمالهم جاءت بالتركيز على الجانب النطقي الفسيولوجي، ذلك أن هذا الجانب هو أقرب منالًا، والأيسر في التعامل معه بالملاحظة الذاتية، والتذوق الفعلي للأصوات، وهما من أهم الوسائل لمعرفة الخواص النطقية للأصوات، وبخاصة عند قوم عرفوا هذه اللغة بحسهم اللغوي المرهف، واهتمامهم الشديد، وعرفوا بهذا الاهتمام بالكلام المنطوق وصحة الأداء. ويظهر تركيزهم على الجانب النطقي للأصوات من أعمالهم التي حفلت بمعالجة أصوات لغتهم وإخضاعها للتصنيف والتحليل اعتمادًا على خواصها النطقية، بالإشارة إلى مخارجها وأحيازها.

أما اعتناؤهم بالجانب السمعي فلم يكن بقوة اعتنائهم بالجانب النطقي، إلا أن هناك أعلاما قد عرضوا لهذا الجانب وأتوا فيه بأفكار تنبئ بوضوح عن إدراكهم لطبيعته وموقعه في رحلة الصوت اللغوي، بدءًا من مصدره حتى نهايته المتمثلة في أذن المتلقي، يظهر هذا بوجه خاص من أعمال المشتغلين بعلم الموسيقى والنغم، من أمثال الفارابي والكندي.

فالفارابي يقول: وأما كيف يتأدى الصوت إلى السمع، فإن الهواء الذي ينبو من المقروع كالآلة أو جهاز النطق، هو الذي يحمل الصوت، فيحرك بمثل حركته الجزء الذي يليه، فيقبل الصوت الذي كان قبله الأول، ويحرك الثاني ثالثًا يليه، فيقبل ما قبله الثاني، فلا يزال هذا التداول من واحد إلى واحد، حتى يكون آخر ما يتأدى إليه من أجزاء الهواء هو الهواء الموجود في الصُّماخين أي بالأذن.

فما أبرع هذا النص وما أعمقه، فالهواء هو الواسطة بين مصدر الصوت وأذن السامع، وهو يحمل الصوت ويحركه منتقلًا به من خطوة إلى أخرى حتى النهاية، وهذه النظر المبكرة هي ماوصل إليه العلم الفيزيائي الحديث.

وللفارابي أقوال أخرى – في كتابه المسمى بالموسيقى الكبير- تلمس بعض التفاصيل الخاصة بمسيرة الصوت، فيشير إلى مصدر الصوت وحركته، وإلى كيفيات انتقاله في الهواء، الأمر الذي ينتج عنه تلوين الأصوات باختلاف درجة الصوت من دقة وسمك إلى آخر ذلك. وهناك محاولات أخرى في هذا الشأن من الكندي وإخوان الصفا، وهي في جملتها تؤكد أن للعرب في القديم دراية بالجانب الأكوستيكي للأصوات.

أما العلماء اللغويون: فلم يلتفتوا إلى هذا الجانب الأكوستيكي التفاتًا جيدا، وإن كان ابن جِني في بعض أقواله قد تنبه إلى هذا الجانب، فقد أورد مصطلحات توحي بمعرفته به، وإن لم يورد لمصطلحاته تفسيرًا أو توضيحًا لانشغاله الشديد بالجانب النطقي الفسيولوجي. من أهم هذه المصطلحات مصطلح “أصداء” ومفرده صَدى.

يقول ابن جني موضحًا ميكانيكية جهاز النطق بتشبيهه بإعمال الآلات الموسيقية: أما إذا وضع الزامر أنامله على خروق الناي، أو أعمل أصابعه في نقاط معينة من وتر العود، خرجت أصداء مختلفة، وتشكلت أصوات لا يشبه بعضها البعض الآخر، نتيجة الحصر والضغط الحادثين من الصنعة وإعمال الأنامل والأصابع، وهذا هو ما يحدث تمامًا في الحلق والفم، فالأصداء تعني عنده: رجع الصوت يرده جسم ما، ومجال هذا الرجع وذاك الرد هو الهواء وما ينتظمه من ذبذبات مختلفة ينتج عنها تشكيل أصوات مختلفات كذلك، وهذه العملية برمتها من اختصاص الدرس الأكوستيكي للأصوات دون شك.

أما بالنسبة للمصطلحات التي تدل على نوع من الدراية والمعرفة بالجانب السمعي فهي كثيرة، بعضها ذو دلالات عامة يختلف الناس في مفهوماتها الدقيقة، كالتفشي والصفير والجهر والهمس… إلى آخر ذلك، ولكن هناك مصطلحات أخرى هي نص في الموضوع، وكاشفة بوضوح عن الحلقة السمعية المكونة لبنية الصوت، منها المصوتات مفردها مصوت، وهو مصطلح مشهور عند اللغويين، أشار إليه ابن جني في خصائصه، وأطلقه على حروف المد أو الحركات الطويلة، لما تمتاز به هذه الحركات من قوة في الوضوح السمعي على ما هو معروف ومقرر عند الدارسين المحدثين، ولا يختلف عنه في هذا النهج الدقيق من سمي هذه الحروف المادية بالحروف الصائتة وجمعها صوائت إلا أن الأول مأخوذ من صَوَّت، والثاني من صات وكلاهما صحيح في الدلالة على المقصود.

من هذه المصطلحات الشدة والرخاوة، والصوت الشديد يعني: الوقفة الانفجارية كالباء والتاء مثلًا، والانفجار لا تدرك حقيقته إلا بالسماع، ويشير صراحة أو ضمنًا إلى الجوانب الثلاثة لعملية التصويت، فالوقفة عملية نطقية، والانفجار أثر سمعي وصل إلى الأذن عبر الهواء وذبذباته وهي مرحلة النظر الأكوستيكي، والرخاوة بترجمة حديثة تعني: الاحتكاك أي: مرور الهواء من منفذ يضيق نسبيًا بحيث يحدث حفيفًا مسموع.

وهناك مصطلحات أخرى أو عبارات هي وصف للخواص السمعية لبعض الأصوات ذات المذاق السمعي الخاص منها :حروف الذلاقة المجموعة في قولهم: “مر بنفل” أو “فر من لب” فهذه الحروف وإن راعوا في الأساس خواصها النطقية لم ينسوا الإشارة الواضحة الصريحة إلى خواصها السمعية، وهي أنها أخف الحروف وأحسنها امتزاجًا بغيرها؛ ولهذا كانت أكثر ورودًا من غيرها في كلام العرب، وإذا خلت منها كلمة رباعية أو خماسية فاعلم أنها أعجمية.

وقد ألحقوا حروفًا أخرى بهذه الحروف المذلقة منها: العين، والقاف، والدال، والسين. يقول ابن جني: وربما جاء بعض ذوات الأربعة معرًى من بعض هذه الستة -أي: مر بنفل- وهو قليل جدًا منه: العسجد، والعسعوص، والرهوقة أو الرهوقة، والزهزقة على أن العين والقاف قد حسنتا الحال لنصاعة العين ولذاذة مستمعها، وقوة القاف وصحة جرسها، ولا سيما وهناك الدال والسين؛ وذلك لأن الدال لانت عن صلابة الطاء وارتفعت عن خفوت التاء، والسين أيضًا لانت عن استعلاء الصاد، ورقَّت عن جهر الزاي فعذبت وانسلت، وليس هذا فقط فابن جني وهو كلف وذو اهتمام كبير بالجانب النطقي للأصوات لا ينسى في مجمل ما يقول في هذا الشأن أن يشير بعبارات أو نعوت أو مصطلحات إلى خواصها السمعية.

من ذلك مثلًا مصطلح “الأجراس” ومفرده جرْس، الذي يرد توظيفه كثيرًا في أثناء كلامه عن ميكانيكية جهاز النطق وتشبيهه له بالآلات الموسيقية كما في قوله: “على ضرب من التمثيل ولأجل ما نعرف من اختلاف الأجراس في حروف المعجم باختلاف مخاطئها التي هي أسباب تباين أصدائها شبه بعضهم الحلق والفم بالناي”.

ومن هذا القبيل أيضًا استخدامه لعبارات أو كلمات هي نص في الدلالة على الجانب السمعي للأصوات كما في قوله: “فإذا قطع الصوت في الحلق والفم باعتماده على جهات مختلفة، كان السبب استماعنا هذه الأصوات المختلفة”.

كما احتفى علماء البلاغة أيضا بالجانب السمعي أثناء حديثهم عن “التلاؤم والتنافر في التركيب الصوتي للكلام” واتسع الحديث في هذا الباب، وتعددت مناحيه، حتى ولجوا أبوابًا أخرى ذات نسبٍ قريب بموضوع الأثر السمعي للأصوات، وعلاقته بمعاني الكلام، وتابعهم في ذلك بعض اللغويين النابهين، كابن جني الذي أتى على الأمر كله من جانبيه الصوتي، والبلاغي المشغول بحسن التأليف وجودته الصوتية؛ ليوائم هذا التأليف الأحداث أو المعاني المعبر عنها به. تكلم فيه عن محاكاة الأصوات لمعانيها، وخصص بابين مستقلين للكلام عن العلاقة بين الألفاظ ومعانيها سماهما “تثاقب الألفاظ بتثاقب المعاني” و”إمساس الألفاظ أشباه المعاني” على ما هو مقرر ومسجل في كتابه (الخصائص).

ولهذا يرى الدكتور كمال بشر أن جل المصطلحات، والأقوال الصادرة عن علماء العربية في سياق الكلام عن الجانب السمعي للأصوات تنبئ عن إدراكهم للجانب الأكوستيكي كذلك، وإن بطريق ضمني حُرِم من التصريح أو التفسير المناسب، فأجراس الأصوات وفخامتها -مثلًًا- التي أشاروا إليها كثيرًا، لا يتحقق وصولها إلى السمع وتأثيرها فيه إلا بواسطة تحمل الصوت من مصدره الناطق لهذا المعنى، هذه الواسطة هي الهواء، وما ينتظمه من ذبذبات موائمة لطبيعة الصوت المذكور، وهذا هو لب العمل للدرس الأكوستيكي الأصوات على ما يدركه الثقات العارفون.

Share

Comments

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *