نـهــايـات … عبد الرحمن منيف

نـهــايـات … عبد الرحمن منيف

(1)

 

إنه القحط.. مرة أخرى!
وفي مواسم القحط تتغير الحياة والأشياء, وحتى البشر يتغيرون, وطباعهم تتغير, تتولد في النفوس أحزان تبدو غامضة أول الأمر, لكن لحظات الغضب, التي كثيرًا ما تتكرر, تفجّرها بسرعة, تجعلها معادية, جموحًا, ويمكن أن تأخذ أشكالاً لا حصر لها. أما إذا مرَّت الغيوم عالية سريعة, فحينئذ ترتفع الوجوه إلى أعلى وقد امتلأت بنظرات الحقد والشتائم والتحدِّي!
وحين يجيء القحط لا يترك بيتًا دون أن يدخله, ولا يترك إنسانًا إلاَّ ويُخلّف في قلبه أو في جسده أثرًا. وإذا كان المسنّون قد تعودوا, منذ فترة طويلة, لفرط ما مرَّ بهم من أيام قاسية, على سنوات المُحْل وعضّة الجوع, وكانت المخاوف تملأ قلوبهم حين يفكّرون فيها, فالكثيرون غيرهم لا يقدرون على مواجهتها بالتصميم نفسه, لأن الكميات القليلة من الحبوب التي توضع جانبًا, بإصرار قوي أول الأمر, لتكون زادًا في أيام الجوع لا تلبث أن تتسرّب أو تختفي, كما يتسرّب ماء النبع أو كما يجفّ المجرى. وتبدأ بعد ذلك محاولات البحث المضني عن خبز اليوم, وخلال هذا البحث تتراكم الأحزان والمخاوف لتصبح شبحًا مرعبًا تظهر آثاره في وجوه الصغار, وفي سهوم الرجال وشتائمهم, وفي الدموع الصغيرة التي تتساقط من عيون النسوة دون أسباب واضحة!
إنَّه القحط مرة أخرى. وها هو ذا يسوق أمامه أشياء لا حصر لها, ولا يعرف أحد كيف تتجمع هذه الأشياء وكيف تأتي. فالفلاحون الذين كانوا يحملون سلال البيض وينزلون بها إلى أطراف المدينة, ويتجرأون بعض الأحيان ويصلون إلى وسط الأسواق المليئة بالبشر, والرعاة الذين كانوا يأخذون أجر سنة كاملة بضعة خراف, وكانوا يسوقونها في بداية فصل الربيع, ومعها الحملان الصغيرة, وكانوا يضعونها على صدورهم لأنها ولدت لتوّها, لكي يبيعوها في المدينة, ثم أولئك الباعة الماكرون الذين يحملون على دوابهم العنب والتين والتفاح, ويحملون موازينهم البدائية ومعها قطع الحجارة المصقولة التي تعوّدوا استعمالها أوزانًا, ويبالغون أول الأمر في الأسعار التي يطلبونها إن كل هؤلاء إذا جاءوا في مواسم القحط يجيئون بهيئات مختلفة شديدة الغرابة: كانت ملابسهم ممزقة وغريبة الألوان, وعيونهم مليئة بالحزن والخوف, أمَّا أصواتهم القوية الصاخبة فكانت تنزلق إلى الداخل, وبدلاً عنها تخرج من الصدور أصوات غير واضحة, حتى إنهم كانوا يضطرون إلى إعادة ما يقولون بضع مرات, بناء على الأسئلة الفظة التي يوجّهها لهم أصحاب الدكاكين في المدينة, والذين لم يكونوا ينظرون إلى وجوه هؤلاء الناس قدر ما ينظرون إلى الأيدي أو إلى تلك الصرر الصغيرة المربوطة بإحكام في أطراف الملابس التي يضعونها على أجسادهم أو على رؤوسهم. كان هؤلاء إذا جاءوا في مثل هذه السنين لا يبيعون البيض والفاكهة والزيتون والخراف, وإنما يحاولون شراء أقصى ما تسمح به نقودهم القليلة من الدقيق والسكر. حتى الرعاة الذين كانوا شديدي النزق ويبالغون في المقابل الذي يطالبون به ثمنًا للخراف, وكانوا يفضّلون العودة مرة أخرى ومعهم دوابهم, دون شعور بالأسف لأنهم لم يبيعوا ولم يشتروا حتى هؤلاء يتحولون في مثل هذه السنة إلى رجال متردّدين متوسّلين, لأنهم يريدون التخلص من الدواب الضعيفة المسنّة, إذ أصبحوا يخافون خوفًا حقيقيًّا أن تموت بين لحظة وأخرى من الجوع والعطش.
أما الباعة الذين تعوّدوا المجيء في كل المواسم, حاملين من كل موسم ثماره, وفي بعض الأحيان للتجول والفرجة, فلم يعُد أحد يراهم يحملون شيئًا في هذه المواسم, وكأنَّهم مجموعة من القنافذ تكورت وهرّبت أشياءها إلى باطن الأرض!
لو اقتصر الأمر على هذه المظاهر لما أثار استغرابًا, لأنَّ العلاقة بين المدينة وما يحيط بها هي من القوة والاستمرار بحيث لا يمكن لأحد أن يميّز بسرعة التغير المفاجئ الذي أخذ يتكون, لكن مع تلك المظاهر كانت أشياء أخرى كثيرة تحصل. فالتجار الذين تعوّدوا على تقديم القروض الصغيرة للفلاحين, واستيفائها أضعافًا مضاعفة في المواسم, اتخذوا موقفًا, بدا, أوّل الأمر, مليئًا بالشروط والتعنت, ثم ما لبثوا أن امتنعوا
تمامًا, وافتعلوا لذلك أسبابًا وخصومات. أما الذين استمروا في تقديم بعض المساعدات, فقد رفضوا أن يكون سدادها في المواسم القادمة, وأصرّوا على شروط جديدة. أصرُّوا على أن تسجّل أقسام كبيرة من الأراضي التي يمتلكها الفلاحون بأسمائهم وأسماء أبنائهم, وفي محاولة لإثبات حسن النية قالوا الكلمات التي يقولها الدائنون دائمًا: (الدنيا حياة وموت, والإنسان لا يضمن نفسه في اليوم الذي يعيش فيه, فكيف يضمن حياة أولاده الصغار بعد موته?). كانوا لا يكتفون بذلك, كانوا يضيفون: (وكما قال الله عزَّ وجل في كتابه الكريم: إذا تداينتم بدَيْن إلى أجل مسمًّى فاكتبوه ولْيكتُبْ بينكم كاتبٌ بالعدل
والفلاحون الذين قابلوا إصرار هؤلاء الدائنين بإصرار أقوى, ورفضوا تسجيل الأراضي, أول الأمر, اضطر الكثير منهم إلى استخراج الحليّ الذهبية والفضيَّة القديمة, والتي جمعت خلال فترات طويلة سابقة, وقدّموها عوضًا من الطحين والسكر وبعض أمتار من الخام. وفي وقت آخر وافق بعضهم على التنازل وقدّم الأراضي والبساتين التي طلبها الدائنون. ومع كل صفقة جديدة كانت أثمان الأرض في القرى تتراجع, وكان التجار يزدادون تصلبًا ولا يوافقون إلاَّ بشروطهم, وبعد أن تتم جميع الإجراءات!
ومع القحط تأتي أشياء أخرى أيضًا: تأتي الأمراض الغامضة, وتعقبها الوفيات. كان الكبار يموتون من الحزن, والصغار تنتفخ بطونهم وتصيبهم الصفراء ثم يتساقطون. وإذا كان الناس قد تعوّدوا على الموت, ولم يعد يخيفهم كما كان الأمر في أوقات أخرى, برغم أنه يتسبب كل الأوقات في تفجير آلاف الأحزان والأحقاد القديمة, فإنَّ حالة أقرب إلى الانتظار اليائس كانت تحوم فوق كل بيت وتسبح في دم كل مخلوق. حتى الدواب في حواكير البيوت, أو في أطراف البساتين, كانت تسيطر عليها حالة من العصبية واليأس.
وفي هذي السنين, ومع الجوع والموت, تأتي أفواج لا حصر لها من الطيور. ومثلما كانت الغيوم الخفيفة العالية تمرّ مسرعة, كذلك كانت الطيور. فقد كانت أفواجها تعبر في كل الأوقات, حتى في الليل العميق, عالية صائتة, وكأنَّها ذاهبة إلى الموت أو إلى مجهول لا تعرف متى أو أين سيكون.
كان الناس ينظرون إلى الطيور نظرة مليئة بالحزن والأسى. تمنوا لو كانت قريبة, أو لو تتوقف قليلاً, لعلهم يظفرون بعددٍ منها يعوّضهم عن الجوع الذي يهدّهم, لكن الطيور تواصل طيرانها المتعب لعلّها تصل إلى مكان ما. والناس لا يتوقفون عن النظر والحسرة, ويتوقعون شيئًا ما, لكن هذا الشيء لا يحصل أبدًا, لأن أسراب الكركي والوز البري, وعشرات الأسراب من الطيور الأخرى واصلت رحلتها المجهدة دون توقّف. أما أسراب القطا والكدري فقد بدأت تظهر بين فترة وأخرى. والفلاحون الذين تعلموا أن هذا النوع من الطيور لا يترك أماكنه الصحراوية, ويقترب من المناطق المزروعة, إلاَّ إذا عضّه الجوع وأضناه العطش. ولم تعد واحات الصحراء أو الخوابي المتناثرة في أماكن عديدة تحوي قطرة ماء, فقد لاحظوا أن هذه الطيور بدأت تتخلى عن الحذر والخوف, أول الأمر, مدفوعة بغريزة البقاء, فتندفع إلى أي مكان لعلها تلتقط بضع حبات أو قطرات من الماء.
إنَّها المأساة نفسها تتكرّر مرة أخرى أمام عيون الفلاحين, وهم قد تعوّدوا الصبر والانتظار, وتعوّدوا أكثر من ذلك أن يبدوا التشاؤم والتحفظ, وكانوا يردّدون إذا سئلوا عن المواسم والزراعة: (المواسم لا تعني الأمطار التي تأتي فقط, وإنما أمور أخرى كثيرة). فإذا حصلت لجاجة في السؤال كانوا يختصرون كل شيء بالكلمات التالية: (المواسم تعني ما يقسمه الله وما يتركه الطير), لأنهم في أعماقهم يخافون كل شيء, يخافون انحباس المطر في الشهور التي يجب أن يسقط فيها, أما إذا جاء مبكرًا ونما الزرع وارتفع شبرًا أو شبرين عن الأرض, فكانوا يخافون أن يأتي مطر غزير بعد ذلك الانقطاع, وعندها تغرق الأرض وتنمو الأعشاب الطفيلية ويفسد أو يقلّ الموسم. فإذا جاء المطر هيّنًا متفرقًا, وفي الأوقات التي يجب أن يأتي فيها, فإنَّ الخوف يظل حتى الأيام الأخيرة من أيار, حين تشتد الحرارة فجأة وتحرق كل شيء, فتخيب الآمال وتتراجع الوعود التي أعطاها الرجال للنساء بأثواب جديدة, وللفتيان الذين تجاوزوا سن البلوغ وأصبحوا يطمحون إلى الزواج إن جاءت المواسم الجديدة بالخير. إن هذه الوعود تتراجع يومًا بعد آخر لأن (الشوبة) جاءت وقضت على كل شيء!
إنَّ أحدًا لا يحب أن يتذكر أيام القحط. أما إذا جاءت قاسية جارفة, وإذا تكرر مجيئها سنة بعد أخرى, فالكثيرون يفضّلون الموت أو القتل ثم الرحيل على هذا الانتظار القاسي, وآخرون يندفعون إلى حالة من القسوة والانتقام لا يتصورها أحد فيهم, بل ويستغربها هؤلاء الناس أنفسهم في غير هذه الأوقات, وفي غير هذه الظروف. وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن ينتقم من الغيوم أو ممّن يرسلها, فلا بدَّ أن تكون هناك ضحايا من نوع آخر. فالأزواج الذين أبدوا من السماحة الشيء الكثير, ولم يتعودوا الشتيمة أو الضرب, كانوا مستعدين لأن يغيّروا هذه العادات بسهولة, ودون شعور بالذنب. كانوا لا يتردّدون في أن يضربوا ويصرخوا لأتفه الأسباب. والذين كانوا يبدون المرح ويظهرون التفاؤل, يتحولون فجأة إلى رجال قساة بوجوههم وتصرفاتهم. وحتى أولئك الذين كانوا شديدي الإيمان ويَعدّون كل ما تأتي به السماء امتحانًا للإنسان, لا يلبثون أن يصبحوا ضحايا وأكثر الناس شتيمة وتجديفًا, حتى ليستغرب مَن عرفهم من قبل كيف كان هؤلاء الناس يخزنون في صدورهم هذا المقدار الهائل من الشتائم والأفكار الخاطئة المحرمة!
هكذا كان القسم الأكبر من الناس في تلك السنة القاسية الطويلة. وإذا كان لكل قرية ولكل مدينة في هذا العالم ملامحها وطريقتها في الحياة, ولها أسماؤها ومقابرها, وإذا كان لكل قرية ومدينة مخاتيرها ومجانينها, ولها نهرها أو نبع الماء الذي تستقي منه, وفيها مواسم الأعراس بعد الحصاد, فقد كان للطيبة أيضًا حياتها وطريقتها في المعاش, وكان لها مقبرتها وأعراسها, وكان في الطيبة مجانينها أيضًا. لكن هؤلاء المجانين لا يظهرون دائمًا ولا يتذكرهم الناس في كل الأوقات, وإن كان لهم حضورهم وجنونهم الخاص, بحيث كانوا كبارًا وأقوياء في أوقات معينة, وكانوا حمقى وشديدي الغرابة في أوقات أخرى.
وكان للطيبة دائمًا أعراسها وأحزانها. كانت الأعراس, في أغلب الأحيان, بعد الحصاد, وكانت الأحزان حين ينقطع المطر وتمحل الأرض. وإذا كانت الأعراس تعني بعض الناس, ولبعض الوقت, فإنَّ الأحزان, وفي سنوات المحل, تعني جميع الناس, وتمتد فترة طويلة.
الطيبة مثل أي مكان في الدنيا, لها أشياؤها التي تفخر بها. قد لا تبدو هذه الأشياء خطيرة, أو ذات أهمية بالنسبة لأماكن أخرى, لكنها بالنسبة للطيبة جزء من الملامح التي تميزها عن غيرها من الضيع والقرى. وهذه الأشياء تكوَّنت بفعل الزمن, وبفعل الطبيعة القاسية, كما لم يحصل في أماكن أخرى. فإذا كانت الأصوات العالية تميز سكان عدد كبير من القرى, حتى لتبدو أصوات الفلاحين عالية الجرْس صلبة المخارج, وبعض الأحيان سريعة, وتتخللها مجموعة من الحِكَم والأمثال, كما هي العادة لدى الكثير من الفلاحين في أنحاء عديدة من العالم, نظرًا للعادة وللمسافات التي تفصل الناس بعضهم عن بعض في الحقول, أو حين يضطرون للمناداة على الحيوانات الضالة, أو على تلك التي تذهب بمزاجها الغريب إلى أماكن بعيدة أو مجهولة, أو ربما للبعد الذي يفصل البيوت بعضها عن بعض, وما يحيط بها من الحواكير والبساتين الصغيرة التي تزرع فيها أنواع عديدة من الخضراوات – فإن هذه الأسباب, وغيرها كثير, خلقت طبيعة معينة, وجعلت الناس في الطيبة يتكلمون بطريقة خاصة, حتى ليظن مَن يسمع الحديث ولا يفهم طبيعة الناس أو علاقاتهم, أنَّهم يتعاركون, أو أن الخلاف بينهم وصل إلى درجة من الحدة, لا بدَّ أن تعقبه أمور أخرى!
لو اقتصر الأمر في الطيبة على ذلك لما عني شيئًا, خاصة بالنسبة للفلاحين أو الذين يعرفون طبائعهم. لكن إذا ترافق مع ذلك النسق الخاص من الحديث الذي تعوّده أهل الطيبة, حيث يلجأون في أكثر الأحيان إلى الاستطراد والتذكر, ويسرفون في رواية القصص والتاريخ, فإنه لولا هذه الصفة لما ظهرت تلك الطبيعة الخاصة, ولما ظهرت تلك الخشية التي تميّز البشر في ذلك المكان, وما يحيط به من قرًى وضياع, وقد تصل إلى المدينة, أو بعض أطرافها أيضًا!
كان أهل الطيبة يعرفون كيف يديرون الحديث بتلك الطريقة العجيبة التي تجعل الأمور ذات أهمية شديدة. وهذه الميزة التي يتوارثها الأبناء عن الآباء, تجعلهم في نظر الكثيرين نوعًا خاصًّا من الناس, وتجعلهم أكثر من ذلك قادرين على التأثير في الآخرين, وربما إقناعهم. ولا يمكن تفسير هذا الأمر على أنه ضرب من الاحتيال أو التملُّق, كما لا يمكن أن يُعَدّ دليلاً على نزعة شريرة, ولكنها العادة بتكرارها الدائم, ثم تلك الليالي الطويلة, ليالى السمر والأحاديث السائبة, ثم التحديات, وما تجرّ إليه, وليالى الصيف أو الشتاء, في البيادر أو إلى جانب النبع, وحول المواقد. لقد كانت الأحاديث تجري سريعة شجيّة وأقرب ما تكون إلى الحلم. وكان الذين لا يحسنون المشاركة في أحاديث من هذا النوع, لا يلبثون أن يصبحوا بشرًا مختلفين إذا وُجدوا بين أناس آخرين, عندئذ يبدأون بإعادة ما سمعوا ويردّدون القصص التي رويت في الطيبة, ثم يضيفون إليها ما شاؤوا من الخيال, فتبدو وكأنَّها أقرب إلى الذكاء والمهارة, فتثير من الإعجاب بمقدار ما تثير من الحسد.
وابن الطيبة, كبيرًا كان أم صغيرًا, يعرف كيف يسمع, وإن كان الصغار, بشكل خاص, أكثر قدرة على الإصغاء, ولربما ردَّدوا فيما بينهم أو في أنفسهم, ما سمعوا مرات كثيرة, حتى تترسخ في الذاكرة الأشياء فلا تضيع ولا تنسى, يضاف إليها أفكار وأمثال تَرِد عفو اللحظة وتمليها الظروف
الطارئة التي يواجهونها. إنَّهم يلجأون إلى ذلك كله لكي تبدو أحاديثهم أكثر تشويقًا وأكثر أهمية!
والطيبة التي تعتمد على المطر والزراعة, وعلى ذلك الشريط الضيق من الأرض الذي ترويه العين, تحسّ في أعماقها خوفًا دائمًا أن تأتي سنوات المُحْل. وإذا كانت تستعد لذلك بحرص شديد, بتربية بقرة أو اثنتين في كل بيت, وبتربية عدد من رؤوس الغنم, فإنَّها في سنوات المحل لا تستطيع أن تطعم أبناءها, ولذلك تسرف فيما تعطي للرعاة, وتحاول أن تتخلص من الدواب الباقية بذبحها أو بيعها. وبرغم أن عدد الرعاة في الطيبة أقل بكثير من القرى الأخرى, فإنَّ رُعاتها من البراعة بحيث يحسدهم الكثيرون, فالراعي الذي يسرح بغنم عشرة بيوت, ويعرف كيف يتصرف في كل الفصول, وإلى أين يذهب- هذا الراعي, برغم غيابه الطويل في الفلاة, يظهر فجأة في سنوات المحل, ويمتلك دالّة على أصحاب الغنم السابقين, بحيث ينام ويقوم في أي بيت يريد دون شعور بالحرج أو التردُّد. أمَّا المزايا الخفية التي يمتلكها الرعاة ولا تظهر للناس في المواسم الجيدة فلا تلبث أن تظهر في سنوات القحط. فهم يرابطون في مداخل القرية, ويتحوّل قسم منهم إلى الصيد, لكن العادات التي اكتسبوها في الرعي لا تفارقهم. وأهل الطيبة الذين يمتازون بقدرة خارقة على الحديث, يدركون أن الرعاة فقدوا هذه الميزة لكثرة ما عاشوا مع الحيوانات في البراري, لكنهم يعرفون كيف يستطيع هؤلاء أن يتجاوزوا الصمت بتلك الأغاني العجيبة التي يردّدونها في الفلاة, ويعرفون أيضًا كيف يستعملون تلك الآلات الخشبية, والتي لا يحسن استعمالها غيرهم, في مواسم الأعراس والحصاد, وربما في حالات الحزن أيضًا.

 

 

بهذه الطريقة, وبمعرفة الأماكن التي تعيش فيها الحيوانات, يصبح الرعاة في مواسم الجفاف أُناسًا لا غنى عنهم, لكنهم في أغلب الأحيان لا يتقنون الصيد, وليست بينهم وبين الصيادين مودة. فهم لا يتخلون عن الغناء أو عن تلك الآلات الشيطانية, كما يحبّ المسنون أن يسمّوها, ويحتالون كثيرًا من أجل إبداء براعتهم في كل الأوقات, خاصة إذا تجمع الناس, وكانت هناك ضرورة من نوع ما!
الطيبة بداية الصحراء. من ناحية الشرق البساتين والنبع والسوق بعد ذلك, وعند الأفق, تبدأ سلسلة الجبال. ومن ناحية الشمال والغرب تمتد سهول فسيحة, يتخلّلها بين مسافة وأخرى بعض الهضاب. وهذه السهول تزرع بأنواع كثيرة من الحبوب. كانت تزرع بالحنطة والشعير والكرسنة والبرسيم وبعض أصناف البقول, وفي الأماكن القريبة من البلدة ترتفع مساكب الخضرة, قريبًا من الأشجار المثمرة. أما من ناحية الجنوب فكانت الأرض تشحب تدريجيّا, وتخالطها الحجارة الكلسية, وتبدأ تُقفِر ذراعًا بعد آخر حتى تتحول في بداية الأفق إلى كثبان رملية, وبعد ذلك تبدأ الصحراء.
في المواسم الجيدة تخضرّ الطيبة وتعبق من كل جهاتها, وتمتلئ بالورد والنباتات العجيبة الألوان والأشكال في بداية الربيع. حتى الجهة الجنوبية التي تبدو في أواخر الصيف متجهمة قاسية, لا يعرف الإنسان ولا يستطيع أن يفسر كيف كانت قادرة على أن تقذف من جوفها كل هذه الكنوز, وكيف كانت تشد أهل الطيبة في بداية الربيع لكي يذهبوا أفواجًا لالتقاط الثمار العجيبة المخبوءة في بطن الأرض, وما يخالط ذلك المهرجان من الذكريات عن أيام كانت فيها الحياة أكثر روعة وخصبًا. إن هذه البلدة تتصف بمزايا وصفات ليست متاحة لكثير من القرى المجاورة. حتى الرعاة الأغراب الذين كانوا يحلمون بالوصول إلى المراعي الخصبة, لا يجرؤون على الاقتراب كثيرًا من مراعي الطيبة, ولا يتجاوزون حدًّا معينًا, لأنهم يعرفون طباع أهل الطيبة وما يتّصفون به من حدة, وما قد يرتكبونه من حماقات إن اعتدى غريب على رزقهم أو حياتهم.
هذه الأمور يعرفها ويتصف بها كل من عاش في الطيبة, ويعرفها أيضًا الذين عاشروا أهلها. وإذا كانت بعض القرى قادرة على أن تقذف من جوفها أبناء كثيرين, وترميهم في أنحاء الأرض كلها, وتفقد بعد ذلك كل صلة بهم, فإنَّ الطيبة تختلف كثيرًا, لأنها تولّد في نفوس أبنائها حنينًا من نوع لا ينسى. وحتى الذين سافروا وابتعدوا كثيرًا, كانوا يردّدون دون انقطاع اسم الطيبة, ويحنون إلى أيامها الماضية, ويتمنون لو عادوا إليها ذات يوم ليعيشوا ما تبقَّى لهم من العمر. والذين لا يذهب بهم التفكير والخيال هذا المذهب, كانوا يفكّرون في العودة إليها بين فترة وأخرى, وهناك يقضون أيامًا جميلة, ويتذكّرون كل ما حصل في سنوات سابقة, ويمرون على كل البيوت, ويجلسون في مقهى السوق ومقهى النبع, ويعبّون الهواء بقوة وشهوة لعله يمنحهم قوة تمكّنهم من مواجهة الأيام المقبلة والاستمرار في الحياة الجديدة التي بدأوا يحيونها في أماكن أخرى!
وإذا كان الناس يفضلون, في بعض الأوقات, تذكّر الأيام الجميلة من الماضي, فإنَّ الأيام القاسية يصبح لها جمال من نوع خاص. حتى الصعوبات التي عاشوها تتحول في الذاكرة إلى بطولة غامضة, ولا يصدقون أنهم احتملوا ذلك كله واستمروا بعد ذلك!
هذا الوفاء الذي يكنّه أهل الطيبة لبلدتهم لا يقتصر على شيء دون غيره, ولا يقتصر على المقيمين وحدهم, فالذين سافروا طلبًا للرزق أو الدراسة, وعاشوا في أماكن بعيدة, لا يكتفون بأن يرسلوا الطحين والسكر والرسائل وبعض الحاجات الأخرى إلى البلدة. إنهم يأتون لقضاء وقت غير قصير في الطيبة أيضًا, خاصة بعد أن يعجزوا عن إقناع أقربائهم بالسفر إليهم.
صحيح أن هذه الفترات التي يقضونها في الطيبة تسبّب لهم ألمًا عميقًا, وتولد في النفوس أحزانًا لا يعرفون كيف يكتمونها, خاصة حين يرون المياه وهي تشحّ وتكاد تنقطع من النبع, ويرون المجرى وقد جفَّ, ثم يتملكهم شعور بالاختناق حين يسمعون أصوات الفؤوس وهي تهوي على الأشجار الجافة. فإذا أضيفت إلى ذلك أخبار الذين رحلوا وغيَّبتهم الأرض من الأصدقاء والأقرباء, الصغار والكبار, فإنَّ الحزن يتحوّل إلى حالة عصبية, ويأخذ الحديث مجرى جديدًا. يبدأ القادمون, برغم صغر سنهم, يلومون الكبار, ويوجهون لهم كلمات التقريع:
– قلنا لكم مئات المرات: هذه الأرض لا تطعم حتى الجرذان, وأنتم, هنا, تتشبثون بها, وكأنَّها الجنة. اتركوها, ارحلوا إلى المدينة, هناك يمكن أن تجدوا حياة أفضل من هذه الحياة التي تعيشونها ألف مرة!
وحين يصمت المقيمون, خاصة من المسنّين, ويتطلّعون بحزن إلى وجوه الذين يتكلمون, يتراءى لهم, للحظات, أنهم لم يروا هذه الوجوه, ولم يعرفوها من قبل. ويتراءى لهم في لحظات أخرى أن الكلمات التي يسمعونها قالها أناس غيرهم, أو أن المدينة أفسدتهم تمامًا وجعلتهم يتكلمون مثل هذا الكلام. وتمتد في أذهان المسنين صور لا نهاية لها, صور الطيبة في كل الفترات, حين كان العشب ينبت على الصخور وعلى سطوح المنازل, وحين كانت الينابيع تتفجر من كل مكان, كانوا يتذكرون ذلك ويعبّون أنفاسًا عميقة وكأنَّهم يتنفسون رائحة الخصوبة تتولد من كل الكائنات, ليس من البشر وحدهم, وإنما أيضًا من الحيوانات والجماد. يتذكرون كل شيء, ويتذكرون أكثر مذاق الأطعمة التي كانوا يأكلونها فيتحرّك اللعاب في أفواههم!
وبرغم أن الأبناء الذين هجروا الطيبة منذ وقت طويل, واستقرّوا في المدينة البعيدة, لا يعنون ما يقولونه تمامًا, أو لا يقصدون إليه, فإنَّ تلك
الصعوبات التي كثيرًا ما تتكرر, تحملهم على أن يقولوا كل شيء, وتحملهم أكثر على أن يفكروا بهذه الطريقة. ومع ذلك, وبالرغم منه, فإنَّ هؤلاء في مواطنهم الجديدة لا يكفّون عن ذكر الطيبة, والحديث عن مزايا موهومة لا تتمتع بها أي بلدة أخرى في المنطقة كلها. كان هؤلاء الأبناء لا يكتفون بالحديث, فإنَّ تعلقهم بالطيبة يدفعهم في حالات كثيرة, وفي لحظات الشوق المذكِّرة, لأن يفعلوا أشياء لا حصر لها ولا تخطر ببال: كانوا يقيمون أفراحهم في الطيبة, يجدّدون هذه الأفراح في الطيبة, يبعثون أبناءهم خلال فصول الصيف, لكي يعيشوا مثلما عاشوا حين كانوا صغارًا. وحين تأخذهم النشوة يدعون أصدقاءهم لقضاء بضعة أيام في هذه البقعة الرائعة: (في الطيبة السماء قريبة, شديدة الصفاء, والليالي هناك مليئة بنشوة لا تجدونها في أي مكان آخر من هذا العالم. أما الفواكه, أما الألبان, كالجبنة حين تكون طازجة, والزبدة حين تقطف, والدجاج والخراف الصغيرة وهي تشوى على نار الحطب… أما هذه الأشياء وأخرى وغيرها في الطيبة, فلا يمكن أن يكون لها مثيل. ثم هناك الصيد. الصيد وفير, فالحَجَل والأرانب, وحتى الحيوانات المتوحشة التي انقرضت في معظم البقاع, يمكن أن توجد في بعض الأودية العميقة المحيطة بالطيبة. والينابيع الغزيرة, إن الينابيع, إذا كانت أمطار تلك السنة وفيرة, تتفجّر من شقوق الأرض, وتتدفّق من تحت كل صخرة. ومياه هذه الينابيع باردة نقية, حتى إن الإنسان لا يشبع حين يشرب من تلك المياه).
هكذا كانت الأحاديث تجري. أما إذا جاءت فاكهة الطيبة إلى المدينة, في سلال صغيرة, فكان هؤلاء الأبناء لا يملّون أبدًا من تقليبها والنظر إليها. كانوا يفضلون أن يقدّموها إلى ضيوفهم, وأن يتحدثوا عنها. أما إذا جرى الحديث عن أجبان المدينة وألبانها, فكثيرًا ما كانت وجوه هؤلاء الأبناء تتغير, تمرق مثل ومضات خاطفة مظاهر القرف والذكرى في وقت واحد, ويتصورون للحظات أنهم غير قادرين على أن يتذوّقوا شيئًا من الطعام غير ذاك الذي يأتي من الطيبة!
أشياء كثيرة تتولّد في النفوس, في نفوس المقيمين والراحلين, وهذه الأشياء من التداخل والتعقيد بحيث لا يستطيع أحد أن يفسرها.
صحيح أن الطيبة, مثل أماكن أخرى كثيرة, شحيحة الأرض, قليلة المياه, لكن فيها شيئًا يجذب الإنسان ويشدّه إليها شدّا محكمًا. وإذا بدأ المسنّون الحديث, في السهرات الطويلة خلال الصيف, فإنَّهم يتحدثون بلغة تروق كثيرًا لهؤلاء الذين أتوا من المدينة. (قبل سنين كثيرة كانت الجبال المحيطة بالطيبة خضراء مثل البساتين, لكن الأتراك, وهم يبنون سكة الحديد, ثم وهم يسيّرون القطارات, لم يتركوا شجرة إلاَّ وقطعوها. كانوا يريدون أخشابًا, ولا يهمّهم من أين. والأشجار التي لم يستطيعوا الوصول إليها, التي كانت في المعاصي وفي قمم الجبال, أحرقوها وهم يرحلون. أما الجبال التي ترونها عارية الآن من المدينة البعيدة وحتى الطيبة, فقد رأيناها خضراء حين كنا صغارًا. كان الفارس يضيع في الغابات الكثيفة التي تملأ السهول القريبة من الطيبة).
مثل هذه الأحاديث توقد في الأذهان صورًا لا نهاية لها, وأبناء الطيبة الذين سمعوها مرات كثيرة, كان يروق لهم أن يدفعوا المسنين لاستعادتها مرات ومرات, خاصة وهم يستقبلون ضيوفًا من المدينة. كانوا يريدون, بطريقة غامضة, أن يثبتوا ميزة خاصة لبلدتهم. وهذه الميزة, وإن كانت لا تظهر بالوضوح الذي يشتهون في الوقت الحاضر, فإنَّها تكمن في مكان ما, ولا بدَّ أن تظهر. ويضيفون بمكر وغموض: (ليس هناك أفضل من أن يقضي الإنسان أيامه الأخيرة في هذه البلدة المباركة). وبالمكر نفسه, يدفعون المسنّين لأن يتحدّثوا عن الأعمار. وهذا الحديث الذي يروق لبعض الرجال, كان يزعج النساء ويدفعهن إلى المقاطعة, وبعض الأحيان إلى الاستفزاز, لكن لا يكاد الحديث يأخذ مجرى جدّيًّا مرة أخرى, حتى يتحدث المسنّون عن نقاوة الهواء وعذوبة الماء, ويتحدثوا عن فوائد النوم المبكر واليقظة المبكرة, ثم نوع الأكل الذي يأكلونه, ويعزون الأمراض الجديدة والموت المبكر والمفاجئ, الذي يداهم المدينة, إلى مجموعة من الأسباب لم يألفوها ولم يسمعوا بها من قبل!
وأحاديث السهر تبدأ دون منطق وبلا نظام, وقد يتخللها بعض الألعاب البريئة. وتلك الأمور تجري عفوًا للحظة, وبلا تخطيط سابق. ومهما تشعّبت وتباعدت, ومثلما بدأت بالغابات والأشجار والينابيع, فلا بدَّ أن يجري الحديث أيضًا عن أيام القحط والصعوبات التي عاشتها الطيبة خلال تلك السنين. وإذا كانت اللذة والأيام الرائعة المليئة بالخصب تحرّك المشاعر, فإن المصاعب التي عاشها البشر وتغلبوا عليها تحرك مشاعر أخرى, مشاعر تزخر بالقوة وبعظمة من نوع خاص, حتى أبناء الطيبة الذين سمعوا هذه الأحاديث مرات كثيرة, يلذّ لهم أن يسمعوها من جديد, وفي كل مرة تبدو لهم جديدة مليئة بالبطولة والعبر: (كنا نأكل الأعشاب وجذور النباتات. كنا نأكل الجرابيع. حتى الجراد الذي كثيرًا ما كان يأتي في سنوات المحل, أو الذي يسبّب المحل, كنا نأكله. صحيح أن الحياة آنذاك كانت في منتهى القسوة والصعوبة, لكن الرجال في تلك الأيام كانوا رجالاً, كانوا أقوياء وقادرين على الاحتمال والصبر, وكانوا قادرين على أن يأكلوا الصخر. أما رجال هذه الأيام…). ويبتسم بعض المسنّين, ويتذكر الآخرون. وينظرون بعضهم في وجوه بعض, وبعضهم في وجوه أبنائهم, ثم في وجوه الضيوف!
هذا جزء مما تعنيه الطيبة في ذاكرة أبنائها. أما إذا جاء القحط فلا يبقي أحد من أهل الطيبة, سواء كان يعيش فيها أو كان بعيدًا عنها, إلاَّ ويحس بمرض من نوع ما, ولا يلبث هذا المرض أن يتحول إلى هاجس ثم إلى كابوس. وبرغم أن الأبناء البعيدين لا يحتاجون إلى مَن يحرّضهم لكي يجيئوا أو يبعثوا إلى البلدة بكل ما يستطيعون, فإنَّ هذه المساعدات لا تقوي على مواجهة الكرب والوقوف في وجه المصائب التي تتوالى بسرعة. فحين يبدأ النبع يتراخى والساقية تضمر, ثم تجف في نهايتها, يصبح المجرى مثل حيّة ماتت لتوّها وبدأت تتخلى عن قشرتها. وفي هذه الأوقات تبدأ الأشجار بالذبول, ثم الجفاف. كانت أشجار المشمش أولى الأشجار التي تموت, ثم تبدأ بعد ذلك الأشجار الأخرى. وتبور مواسم الجوز والزيتون, وتصبح الطيبة كالحة قبيحة, ويغلب عليها لون الصفرة. ومن ناحية الجنوب, بدل الفقع والكماء والحميض والأنواع الكثيرة من الفطر, تبدأ عواصف الرمال تهبّ لتغطي كل شيء, وتخيّم على سماء الطيبة موجة من الغبار الممرض, وتتكاثر أفواج الذباب والغربان على الفطائس وعلى بقايا البراز, وتتحوَّل الأصوات إلى دويّ مكتوم ينذر بشؤم ما. وفي هذه السنين لا بدَّ أن يموت عدد كبير من الناس. ولا بدَّ أن تحصل أشياء لم يقدّرها الكثيرون!
لا تقتصر هذه الحالة على البشر, إذ تمتد إلى الحيوانات والطيور, فالحيوانات التي كانت تملأ منطقة شاسعة حول الطيبة وتسرح بلا مبالاة ورخاوة, وتقضي جزءًا من نهاراتها في سكينة أقرب إلى الدعة من الشبع والامتلاء, لا تلبث أن تتحول إلى حيوانات نزقة شديدة الجفلة كثيرة الحركة, بحثًا عن شيء تأكله, ثم تتحوّل إلى الشراسة والعناد, فتبدو هائجة, ويمكن أن تتصرف بجموح يصل درجة الأذى. وأخيرًا يضربها الهزال والمرض, وفي هذه الحالة يتراكض أصحابها بعصبية لكي يتخلصوا منها بالذبح أو البيع.
أما الطيور التي تعبر سماوات كثيرة متجهة إلى حيث تجد رزقها, فقد كانت تعبر سماء الطيبة بسرعة ودون أن تتوقف, وكأنَّها بغريزة غامضة, ومنذ أزمان موغلة في القدم, وبتوارث فذ, تعرف كيف تتجاوز الطيبة وإلى أين تذهب, عدا تلك الطيور الصحراوية القاسية الملعونة, فقد كانت تترك أماكن كثيرة في هذا العالم وتتجه إلى الطيبة أو قريبًا منها, وتبدأ من هناك معركتها الأزلية مع البشر وبقايا الحب وقطرات الماء.
وإذا كان لكل مدينة وبلدة وقرية جنونها ومجانينها, فإن جنون الطيبة أنواع كثيرة, لكن نوعًا خاصًّا, أكثر من غيره, يظهر في سنوات الجفاف. وهذا النوع يطغى على غيره ويكاد يكون الوحيد. إنه جنون الصيد. حتى الذين لا يمارسون هذه الهواية, وينظرون إليها نظرة تتراوح بين الزراية والرفض, ويفسرونها على أنها أقرب إلى الغفلة ورغبة الكسل, فإنَّهم يكتشفون فجأة في أنفسهم حنينًا موجعًا لأن يصبحوا صيادين بشكل ما. قد تدفعهم إلى ذلك الرغبة لتأمين الرزق, أو لطرد الطيور الجارحة والانتقام منها, لعل بعض الحبوب تبقي وتنبت في السنة التالية, أو لعل تلك الحبوب تتفتح عن بعض أوراق خضراء تأكلها الحيوانات الجائعة. وربما كان الدافع إلى ذلك كله الرغبة في الانتقام من عدوٍّ ما!
كان مجانين الطيبة في هذه السنة أكثر عددًا وأكثر صخبًا من أي سنة سابقة. حتى في سنة المجاعة الكبيرة, التي أعقبت الحرب, لم يظهر مثل هذا العدد, ولم تظهر مثل هذه الحالة. إذ ما كاد موسم الصيد يبدأ حتى أخرج هؤلاء المجانين البنادق القديمة من مخابئها, مسحوا عنها الغبار, نظَّفوها جيدًا, وبدأوا يضعون الخطط ويتحدثون. لم يكتفوا بذلك, ابتدعوا وسائل صيد جديدة, وتفنَّنوا في تحضير الخرطوش واختراعه. ولكي ينتقم أولئك المجانين, المصابون بهذا المرض منذ وقت طويل, من أيام ماضية, حين كانوا سخرية أهل الطيبة, لجأوا إلى المكر والدهاء, فلم يتركوا أحدًا إلاَّ وأغروه بالصيد. وأكَّدوا أن هذه الطريقة وحدها يمكن أن تنقذ البلدة. ولكي ينجحوا في لعبتهم حتى النهاية وزّعوا على الكثيرين, مجانًا, عددًا من الخرطوش الذي يصنعونه بأيديهم وبوسائلهم البدائية, واتخذوهم مساعدين لهم في تحضير كل ما من شأنه أن يسهل مهمتهم, وقالوا بصوت واضح: (ليس أسهل من الصيد, ولكي يصبح الإنسان صيَّادًا يجب أن يمارس الصيد, تمامًا مثلما يتعلم السباحة). والذين استمعوا إليهم بانتباه لم يصدقوا آذانهم, أول الأمر, لكن الإغراء الخفي الماكر جرّ
الكثيرين, فيومًا بعد يوم كان مجانين آخرون ينضمّون إلى مجانين البلدة, وكان الوافدون الجدد يمتلئون زهوًا حين تصيب طلقاتهم طيرًا من الطيور, وبين عشية وأخرى يتحولون إلى مهووسين لا يعرفون الراحة والهدوء إلاَّ بالقتل والركض وراء الطيور من مكان إلى آخر.
هكذا بدأت اللعبة أول الأمر, وهي وإن بدأت صغيرة خفية, فقد أثارت حنق عدد كبير من المسنين, ومن الذين ينظرون إلى الصيد على أنه وسيلة للرزق والحياة.
لقد كانت اللعبة أقرب إلى العبث ولا تناسب الرجال الذين يقدّرون مسؤولياتهم, ويجب أن ينشغلوا بالهموم الكبيرة التي أخذت تزداد يومًا بعد آخر. لكن اللعبة تكبر وتتسع كل يوم. والذين أبدوا بعض التردّد ما لبثوا أن تراجعوا, خاصة حين أخذوا يشاهدون طيور القطا محمولة بالعشرات. أما حين يقلبونها ليتأكدوا من كمية اللحم فيها فكانوا يقولون بصوت عال: – ضعيفة.. نعم إنها أضعف من أي سنة سابقة!
ولكي يتأكدوا من أن ما يقولونه هو الحقيقة, كانوا يقلّبونها مرة أخرى, ويشدّون على صدورها. وبهذه الحركات الإضافية, وبضغط الأصابع على اللحم الطري, كانت مواقفهم تتغير ويحسّون برغبة مغرية. أمَّا حين يبدأون بعدّها فكان التردّد يتراجع مع كل رقم جديد, لكن دون إعلان, ودون كلمات, ويكون كل واحد منهم قد اتخذ قرارًا داخليًّا أن يبدأ اللعبة!
والمسنّون الذين صرخوا بغضب, وعدُّوا هذا الهوس نوعًا من الفتنة أو الجنون, ولا يليق بالرجال في مثل هذه المحنة القاسية, ما لبثوا أن تراجعوا. صحيح أنهم لم يفعلوا ذلك سريعًا وبشكل علني, لكن اعتراضاتهم بدأت تقل وتتراجع يومًا بعد آخر, وبدأت كلماتهم تأخذ طابعًا ليّنًا أقرب إلى النصح:
– اذهبوا إلى المدينة واعملوا هناك. أما أن تنتشروا في هذه الأرض الغبراء, وأن تتشردوا بين الجبال والصحراء, من أجل طيور جائعة, وليس فيها سوى العصب والريش, فإنَّ ذلك مضيعة للوقت.
وحين يهزّ الشباب رؤوسهم إشارة إلى أنهم سمعوا ما قاله المسنّون, دون أن تعني الإشارة موافقة أو رفضًا, كان بعض المسنّين يضيف:
– إذا جاءت المصائب فإنَّها تجيء مرة واحدة!
وتستمرّ اللعبة تكبر, ويستمر الشباب في ترتيب لوازم الصيد لليوم التالي: يهيّئون الخرطوش, ينظّفون البنادق, يصنعون قطعًا من القماش الملون الملئ بالثقوب لاستدراج الطيور والاحتيال عليها. وحين يرى المسنّون ذلك, ويجدون لدى الشباب إصرارًا لا يتزعزع, كانت لهجة الكثيرين تصبح أكثر حنوًّا وخوفًا:
– هذا البارود يأكل الأخضر واليابس, يجب أن تحذروا!
ويرقب المسنّون بعناية الطريقة التي يُصنع بها الخرطوش ليتأكّدوا من أن الشباب يفعلون ذلك دون ما خطإ. فإذا تأكَّدوا كانت كلمة وحيدة تتكرر بلا انقطاع:
– كل البلاء من المجنون الكبير عساف!
عسّاف الرجل الذي يعرفه أهل الطيبة كلهم, نساءً ورجالاً, كبارًا وصغارًا, هو نفسه عساف الذي يبدو غامضًا ومجهولاً بالنسبة للجميع, وقلما يراه أو يجلس معه أحد.
بين الأربعين والخمسين, طويل مع انحناءة صغيرة, ضامر لكنه قوي البنية, أعزب لأسباب يختلف فيها الناس كثيرًا. قيل إنه كان يريد ابنة عمه, لكن أباها رفض (لأن عسافًا بلا عمل ولا يستطيع أن يعول نفسه, فكيف إذا تزوَّج وجاءه أولاد)? وقيل إن الفتاة رفضت وهدَّدت أن تحرق نفسها إن هم أجبروها على الزواج به, وتعللت بغرابة الطبع والقسوة. وحين سئلت أمها, في وقت متأخر, أبدت استنكارها الشديد, وقالت إن حذاء ابنتها يعادل رأس هذا المتشرد الذي يعيش في البراري والمغارات, ووصفته بالمجنون أيضًا. ولو حاول أي إنسان التحري عن أسباب أخرى لوجد الكثير. إن هذه القضية التي شغلت الطيبة وقتًا ما انتهت بصمت وهدوء, ولم تعد تشغل أحدًا. أما ما خلّفته من نتائج فاسم جديد لعساف: أبو ليلى. وبعض الذين استمروا يبدون اهتمامًا بهذا الأمر, تحوَّل لديهم هذا الاهتمام مع الأيام إلى نوع من الطرافة والسخرية, خاصة وأن عسافًا يرفض الإجابة عن أي سؤال له علاقة بهذا الموضوع. وهكذا تعوَّد الناس أن يكون عساف بهذا الشكل, ولو ظهر بشكل آخر لبدا غريبًا!

 

 

عسّاف الرجل الذي يعرفه أهل الطيبة كلهم, نساءً ورجالاً, كبارًا وصغارًا, هو نفسه عساف الذي يبدو غامضًا ومجهولاً بالنسبة للجميع, وقلما يراه أو يجلس معه أحد.
بين الأربعين والخمسين, طويل مع انحناءة صغيرة, ضامر لكنه قوي البنية, أعزب لأسباب يختلف فيها الناس كثيرًا. قيل إنه كان يريد ابنة عمه, لكن أباها رفض (لأن عسافًا بلا عمل ولا يستطيع أن يعول نفسه, فكيف إذا تزوَّج وجاءه أولاد)? وقيل إن الفتاة رفضت وهدَّدت أن تحرق نفسها إن هم أجبروها على الزواج به, وتعللت بغرابة الطبع والقسوة. وحين سئلت أمها, في وقت متأخر, أبدت استنكارها الشديد, وقالت إن حذاء ابنتها يعادل رأس هذا المتشرد الذي يعيش في البراري والمغارات, ووصفته بالمجنون أيضًا. ولو حاول أي إنسان التحري عن أسباب أخرى لوجد الكثير. إن هذه القضية التي شغلت الطيبة وقتًا ما انتهت بصمت وهدوء, ولم تعد تشغل أحدًا. أما ما خلّفته من نتائج فاسم جديد لعساف: أبو ليلى. وبعض الذين استمروا يبدون اهتمامًا بهذا الأمر, تحوَّل لديهم هذا الاهتمام مع الأيام إلى نوع من الطرافة والسخرية, خاصة وأن عسافًا يرفض الإجابة عن أي سؤال له علاقة بهذا الموضوع. وهكذا تعوَّد الناس أن يكون عساف بهذا الشكل, ولو ظهر بشكل آخر لبدا غريبًا!
منذ كان صغيرًا شغلته قضية الصيد, وهذه القضية كبرت عامًا بعد عام ما دام عساف يكبر. وإذا كانت بسيطة وبدائية حين كان صغيرًا, ويفعل ما يفعله الصبيان في مثل عمره, فقد كان أكثرهم ولعًا وتعلقًا. أما حين مات أبوه, فقد استغرق في هذه الهواية الخطرة. لم يعد يكتفي بما يفعله الصغار. كان يقلد الكبار ويذهب حيث يذهبون, وكان يحاول باستمرار ابتداع وسائل جديدة للصيد. ونتيجة لهذا الوضع فقد اكتسب عادات خاصة أقرب إلى الغرابة. كان يقضي وقته في البساتين, بدأ التدخين في سنّ مبكرة, أصبح كثير التفكير والتأمل في كل ما حوله من طبيعة وبشر وحيوانات, وكان في أغلب الأحيان بعيدًا عن الناس, أما حين يكون بينهم فالصمت سلاحه تجاه الآخرين.
ظلَّ يتطور بهذا الشكل, وحين ماتت أُمه, تغيّرت طباعه أكثر من قبل, فبدل أن يعود إلى البلدة ويصبح مثل الآخرين, يزرع ويحصد ويستقر, فقد اشترى بندقية صيد من النوع القديم. وبدا الأمر غريبًا أن يكون فتًى في الثالثة عشرة يقلد الكبار ويلاحق الطيور التي لا يفكّر فيها مَن كان في عمره, وأن يقضي وقته كله خارج البلدة وحيدًا ينتقل من وادٍ إلى آخر ومن جبلٍ إلى آخر.
إن أجزاء كبيرة من حياة عساف بعد ذلك مجهولة, وحتى لو أراد هو نفسه أن يستعيد حياته, فلن يتذكر إلاَّ الشيء القليل, لن يتذكر أحداثًا كبيرة أو مهمة, سوى تلك التي لها علاقة بالصيد: أين ضرب الذئب? وكيف ضربه? كم مرة اضطر للنوم في المغارات خوفًا من الموت بردًا, بعد أن سقط الثلج وتراكم بكثافة ليسد الطرق ويجعل الحركة صعبة? ويتذكر عدد المرات التي رفض أن يضرب إناث الحجل لأنها كانت تسوق أمامها أفراخها الصغيرة. إن هذه الذكريات وما يشبهها لا تعني أحدًا غيره, وحتى لو أراد أن يتحدث فإنَّ حديثه يبدو غامضًا متداخلاً, ولا يستطيع أحد أن يتابعه!
هذا النوع من البشر يتحول يومًا بعد آخر إلى حالة من الغرابة والانطواء, ويصبح بطبيعته أميل إلى الابتعاد عن الناس أو الاهتمام بهم, كما أن له عالمه الخاص وهمومه التي لا يشاركه فيها الآخرون. أما طريقته في التعبير فتكون قاسية فظة, وقد تؤذي إذا لم تفهم هذه الطبيعة ويحسن التعامل معها.
والطيبة, التي عرفت أنماطًا كثيرة من البشر, تعوّدت على عساف كما تعودت على هذه الأنماط, ولم يعد مظهره الرثّ أو صمته, وحتى الشتائم التي يطلقها في بعض الأحيان, إذا حاصره أحد وانهالت عليه الأسئلة والاستفزازات, لم تعد هذه الأمور تثير حرجًا أو خصومات, إذ ما تكاد تبدأ حتى تأخذ شكلاً ساخرًا أوَّل الأمر ثم ضاحكًا في النهاية. وعساف الذي تعوَّد على هذه الحياة كان يجد صعوبة كبيرة في أن يغيرها. وفي المرات القليلة التي كان يضطر فيها إلى استبدال بعض من ملابسه يفعل أشياء لا تخطر على بال ولا يفعلها أي عاقل. فحين يبلي حذاؤه ويكون مضطرًّا لشراء حذاء جديد, لا يستطيع أن يستعمل الحذاء الذي يشتريه مباشرة; فكان يدخل عليه تعديلات كبيرة, تفسده في بعض الحالات. كان يلجأ إلى قصّ الجلد عند الأصبعين الصغيرين, وكان يضرب الحذاء ضربات قوية بعد أن يضعه في الماء. ولو سأله أحد عن ذلك لما كان لديه شيء يقوله, حتى هو لا يعرف لماذا يفعل ما يفعله. ولو اقتصر الأمر على الأحذية لهان وفُهم, لكنه كان يفعل بملابسه شيئًا مماثلاً, كان يمزق السراويل في مواضع كثيرة, وفي تلك المواضع يخيط عددًا من الرقع الملونة, وفي بعض الأحيان قطعًا من الجلد الطري. إن هذا شأن من شؤونه, ولا يستطيع أحد أن يناقشه أو يقنعه بغير ذلك. أما في أيام الأعياد, وحين يكون مضطرًّا إلى أن يمر على معظم بيوت الطيبة, كما هي العادة, فكان لا يغيّر شيئًا في مظهره, كما تعوَّد الناس أن يفعلوا, وقد يبالغ فيلبس أسوأ ما في غرفته الصغيرة, وهي الغرفة الوحيدة التي بقيت له بعد أن باع البستان أوَّل الأمر, ثم باع بعد ذلك جزءًا من الدار, ولم يبق إلاَّ على الغرفة الداخلية وحاكورة صغيرة.
هكذا تعوَّد أهل الطيبة على عساف, ونتيجة الألفة والاستمرار, لم يعد يثير تساؤلاً أو استنكارًا. الشيء الوحيد الذي أثار اهتمام الناس ذات يوم, ولم يستمر هذا الشيء طويلاً, أن عسافًا اقتنى كلبًا. ولقد بالغ كثيرًا, حين سئل عن الكلب, في الحديث عن أهميته وأصله, وبالغ أكثر من ذلك في تحديد المبلغ الذي دفعه ثمنًا له. وقد قيل مرات كثيرة إن عسافًا وجد الكلب ضائعًا, ربما من صياد غريب, فجاء به. وتجرأ بعض الناس في الطيبة وقال إن عسافًا سرقه! وعساف الذي سمع بعض ما يقوله الناس, كان يبتسم دون اهتمام, ويطبطب على ظهر الكلب بمودة, ويقول له: (اسمع ما يقول الهبل). وخلال هذه الفترة قضى عساف وقتًا أطول مما تعوَّد في البيت, وقضى بعد ذلك أسبوعين في الطيبة, لم يخرج خلالهما إلى الصيد. وقد فسّر الأمر بالخوف . فالذين قالوا إنه سرق الكلب, كانوا متأكدين من ذلك أكثر من ذي قبل, لأن الأمر لو كان له سبب آخر لما خشي عساف الخروج إلى الصيد واصطحاب كلبه معه. أمَّا الذين قالوا إن عسافًا وجده, فقد كانوا على يقين أن الكلب سيعود إلى أصحابه حالما يخرج من الدار ويصبح حرًّا, ولن يستطيع عساف أن يفعل شيئًا لو هرب الكلب وعاد إلى أصحابه! أما الحقيقة فهي أن عسافًا لا يثق إلاَّ بما يفعله, ولا يتأكد إلاَّ إذا فعل الشيء بنفسه, ولذلك, وبعد أن رافق صيادين جاءوا إلى الطيبة من مكان بعيد, ونتيجة للجهد الذي بذله معهم, ولأنه دلّهم على أماكن مناسبة للحجل, ثم تنازل لهم عن الطيور الخمسة التي اصطادها, أعطوه ذلك الكلب. لكن عسافًا لم يكن واثقًا بالكلب ثقة كافية, وقد أجهد نفسه لفترة طويلة لكي يدرّبه, فأثار بذلك سخرية أهل الطيبة. ومن جملة ما فعله عساف في هذه الفترة, إضافة إلى المدة التي قضاها في البيت, أنه ربط الكلب بحبل وبدأ يتجول به في الأماكن القريبة, واشترى له كمية من (الحامض حلو), وحاول أن يعلمه عادات جديدة. والناس الذين رأوه يجرّ الكلب بالحبل ضحكوا طويلاً وأبدوا سخرية مريرة:
– انظروا.. المجنون يربط كلب الصيد!
– لا أحد يدري مَن يصيد لمَن, أو مَن يساعد مَن!
لم يكتفوا بذلك وإنما انضموا إلى الذين اتهموه بسرقة الكلب, ولو لم يكن الأمر كذلك لما فعل ما يفعله الآن!
– سبحان الخالق! ربما ولدتهما أُم واحدة . انظروا إنه يشبهه تمامًا.
إن ذلك كله من تاريخ الطيبة الأقرب إلى النسيان. فبعد أن أصبح عساف والكلب متلازمين, بدت صورتا الاثنين واحدة, وتجرأ بعض الخبثاء, وقالوا إن هناك شبهًا قويًّا بين عساف والكلب, من حيث ضخامة الأنف وكبر الأذنين, ومن الصوت المكتوم الأقرب إلى الغرغرة. طبيعي لم يستطع أحد أن يقول هذا الكلام مباشرة لعساف, أو في أثناء وجوده, لكن أحدًا لا يسمِّي الكلب إلاَّ عسَّافا, ولا أحد ينظر إليه إلاَّ تلك النظرة!
إن الطيبة مثل كل القرى والبلدان الأخرى التي تشبهها, من حيث القسوة والسخرية ورغبة التندر واختلاق بعض الأكاذيب, وفي اغتياب الناس أيضًا, خاصة إذا كان هؤلاء مثل عساف. إذ ما يكاد يظهر في غبش الصباح الأول ويراه أحد حتى يمتلئ وجه مَن يراه بابتسامة أقرب إلى السخرية, ويسأله تلك الأسئلة عن الصيد والكلب, وعن العجائب التي يراها في البرية! أمَّا إذا طالت السهرات وامتلأت بالأحاديث, فلا بدَّ أن يتبرع أحد ويقول شيئًا ساخرًا:
– رأيت اليوم عسافًا يحمل الكلب على ظهره!
ويقول آخر والضحكة تملأ حلقه:
– رأيت اليوم عسافًا الحقيقي يحمل البندقية ويصيد.. ولا بدَّ أن يكون هو الصياد وليس هذا الكذوب.
ويقول ثالث:
– أطلق عساف النار على ديك حجل فلم يصبه, وأصاب الكلب, ولذلك فهو كلب أعور!
إن شيئًا ما حصل في وقت من الأوقات, لكن طريقة الطيبة في نقل الأخبار تختلف عمَّا يجاورها, إذ لا بدَّ أن يكون في أي قصة يرويها أحد من أهل الطيبة مقدار من الصحة. فعين الكلب المطفأة كانت هكذا منذ اليوم الأول الذي وصل الكلب إلى الطيبة. وإذا كان عساف قبله هكذا ولم يسأل كيف عورت عينه أو متى, فقد قال ذات يوم إن ذلك ربما وقع في الصيد, ولم يضف شيئًا. أما الطيبة فروت ذلك على أنه وقع لعساف, ومع ذلك الكلب. وإذا كان عساف اضطر إلى حمل الكلب ذات مرة, فقد فعل ذلك بعد معركة مريرة بين كلبه وذئب, وكاد عساف ذاته يموت خلال تلك المعركة. أما الكلب فنُهش في أكثر من موضع, ولو تُرك لمات! أما حديث البندقية التي يزعم بعض أهل الطيبة أنه رأى الكلب يحملها ويصيد بها فلا أساس له البتة, وإنما هو وهم وحسد; لأنَّ الكلب, وبعد تدريب طويل, كان يساعد في حمل قسم من الصيد, كأن يحمل ديكًا من الحجل بين أسنانه!
والطيبة التي تحب الفكاهة والسخرية, مثل غيرها من القرى, في أوقات الراحة والفرح, تتغير كثيرًا أيام الأحزان, وتتغير أكثر أيام تشحّ الأمطار وتأتي سنوات المُحْل. تصبح بلدة أقرب إلى السواد, تغطّيها الظلمة عند الغروب, وتمتد فوقها موجة من الصمت والأحزان, وتبدو لياليها طويلة ساكنة, عدا أصوات الكلاب المشرّدة الجائعة, وطلقات تائهة في بعض الأحيان. وفوق الطيبة, في مثل هذه الأيام, تنتشر رائحة ثقيلة منذرة, لكن لا يميز تلك الرائحة إلاَّ من عرفها أو تنشّقها ذات يوم!
وفي هذه الأيام تتغيّر أشياء كثيرة!
هذه السنة ليست مثل أي سنة سابقة. هكذا بدأت منذ الأيام الأولى للشتاء. فلم تهطل الأمطار المبكرة التي تنتظرها جميع القرى الواقعة على أطراف البادية, والتي تبشر بموسم خصب, وتحمل معها أعدادًا لا حصر لها من النباتات البرية, ويُقال إن تلك النباتات تنزل من السماء مع المطر. هذه السنة جاءت برياح باردة شديدة القسوة ولم تجئ بالأمطار. وأهل الطيبة الذين تعوّدوا على استقبال مثل هذه الشتاءات الباردة لم يستغربوا ولم يتبرموا, لأنهم ما زالوا في أوَّل الشتاء, ولأنَّ أيام الخير أمامهم لا تزال كثيرة وطويلة. لكن المسنّين الذين خبروا دورات الطبيعة, وعرفوا بشائر الخير من نذر القحط, دخل الخوف قلوبهم: كان خوفًا أقرب إلى الحزن, وارتفعت في ذاكرتهم أيام مثل هذه الأيام, ثم جاءت بعدها المصائب والأمراض وأخيرًا جاء الموت. ومع ذلك كتموا مشاعرهم في صدورهم وصمتوا. أمَّا الرجال الآخرون, الأصغر سنًّا والأقل دراية
بالمواسم والطبيعة, فقد نظروا إلى السماء بتساؤل, وداخلهم الشك فيما يعرفون من أمور. وحين سألهم الصغار إن كان الكماء والفطر والحميض والخبيز وعشرات النباتات البرية الأخرى, ستأتي هذه السنة, نظروا إلى الصغار بارتياب, وكأنَّ مثل هذه الأسئلة تحمل لهم امتحانًا عسيرًا, واكتفوا بإجابات غامضة, أقرب إلى التحدي:
– الشتاء في أوّله, وأنتم مرضى بشيء لم نعرفه عندما كنا في أعماركم. أنتم مرضى بالأسئلة التي لا جواب لها!
والصغار الذين لم يكتفوا ولم يقتنعوا بإجابات الآباء, ذهبوا إلى الأمهات وأمطروهن بأسئلة لا تنتهي: (متى نذهب إلى التشوّل للفقع)?), (متى نذهب إلى الكماء?), (هل سنجد كميات كبيرة من الفطر هذه السنة, كما وجدناها في السنة الماضية?). وإذا كان الأبناء, في مثل هذه السن, لا يجرؤون على مناقشة الآباء أو الإلحاح بسؤالهم, فإنَّهم على الأمهات أكثر جرأة وأكثر إلحاحًا, والأمهات بطريقة غامضة, وتتميّز بمكر خفي, يحاولن بكل الوسائل أن يصرفن الأبناء عن مثل هذه الأسئلة, لكن الوعود تبقي قائمة, والرؤوس تشتعل بعشرات الرغبات والأحلام. أما إذا نظرت النسوة في وجوه الرجال, خاصة المسنين, فكنَّ يقرأن في تلك الوجوه مصاعب الأيام القادمة وآلامها التي لا يمكن أن تُنسى!
هكذا بدأ الشتاء في هذه السنة. وإذن كان كل يوم يأتي ولا يأتي المطر, يحمل معه مزيدًا من العصبية للذين يذهبون إلى الحقول, وينظرون إليها بحزن, وقد تحجّرت التربة من البرودة, وعبثت بها العصافير الموسمية التي تأتي بأعداد كبيرة وتخلق في الجو دويًّا لا ينقطع منذ الفجر وحتى الغروب, ولا ترهب هذه العصافير الفزاعات السوداء التي تُنصب في أماكن عديدة من الحقول. إن كل يوم يمر يحمل نذيرًا جديدًا, ويضيف خوفًا جديدًا في قلوب الرجال, وهمًّا ثقيلاً أقرب إلى الحزن في قلوب النساء. أما حين يعصف الجو وتعربد الرياح الباردة, فإنَّ انتظارًا ممضًّا يشبه حد الموسى يسيطر على البلدة: (هل ستحمل هذه الرياح المطر? هل سينبت الزرع بعد هذا الجفاف الطويل? وإذا جاءت قطرة أو قطرتان, فمَن يضمن المطر في آذار ونيسان?). وتهوّم في الرؤوس أسئلة من نوع آخر: (ما دام الموسم قد انتهى, فقد كان على الله أن يبعث لنا بالأمطار الموسمية المبكرة. لو جاءت تلك الأمطار لأخرجت لنا البرية شيئًا نأكله ويعوضنا عن التعب والموت, لكن الموسم انتهى, وآذار لم تبقَ فيه إلاَّ أيام وينقضي دون قطرة مطر, ولا أحد يعرف كيف ستكون الحياة بعد ذلك!).

 

 

وفي نهاية آذار تمامًا هطل المطر. كان مطرًا غزيرًا استمر يومين متواليين. وخلال هذين اليومين تغيّرت وجوه الناس وتصرفاتهم, حتى الذين لا علاقة لهم بالزراعة مباشرة بدوا أكثر فرحًا, وفي بعض الأحيان أقرب إلى الخفة في التعبير عن ذلك الفرح, وتجرأ الكثيرون وقالوا: (موسم هذه السنة, خاصة بالنسبة للصيفي, سيكون أحسن من جميع المواسم التي شهدناها من قبل). لكن الذين يزرعون, والذين عرفوا دورات الطبيعة, لم يتكلموا ولم يتفاءلوا, كانوا ينتظرون شيئًا آخر. وفي هذه الأيام, وبعد أن أشرقت الشمس وملأت الكون في اليوم الثالث, ما لبث الذين امتنعوا عن الزرع في بداية الموسم, أن حرثوا الأرض على عجل, واستعانوا بكل الوسائل, لكي يضمنوا لأنفسهم زرعًا وفيرًا مثل غيرهم!
لكن مطر آذار بغزارته وجنونه لا يمكن أن يقنع المسنّين ولا يرضيهم. إن لهؤلاء مزاجًا يختلف عن غيرهم, وهذا المزاج ربما كوّنته الطبيعة والأيام الطويلة والمخاوف, وربما يتولّد لأسباب غامضة مجهولة! وقد تكون له علاقة بالأرض ذاتها, إذ يشعر أي واحد من هؤلاء بأن كل يوم جديد يقرّبه أكثر فأكثر من الأرض. وما دام الأمر هكذا, فإنَّ أمنية خفية تدفعه لأن يتمنى أرضًا من نوع ما يمكن أن تستقبل لحمه وعظامه, ويحس بنفس الخفاء أن هذا الجفاف الذي تسرّب عميقًا إلى الأرض, ثم تلك الرخاوة اللزجة التي جاء بها مطر آذار, لا يناسبان, ويتمنى لو أنه لا يغادر الحياة في مثل السنة القاسية. وحتى لو بلغ اليأس مبلغًا كبيرًا في قلوب المسنّين وأصابهم الغمّ والسأم من هذه الدورة العاتية للطبيعة, فقد كان كل واحد منهم يريد أن يموت موتًا كريمًا لائقًا, أن يموت في الوقت الذي أنهي كل ما يجب أن يفعله في هذه الحياة, وأن يغادر الدنيا بهدوء وسلام, دون جلبة, ولكن باحترام يناسب عمره. أما أن يموت مثلما يموت الصغار, أو مثلما تموت الدواب, بطريقة مفاجئة, ودون إنذار من أي نوع, فإن موتًا مثل هذا يدفعه إلى شعور عميق باليأس!
ومثلما توقّع المسنّون حصلت الأمور بعد ذلك: فالزرع الذي اهتزَّ في أعماق التربة من الأمطار الغزيرة التي سقطت في نهاية آذار, ما لبث أن شقَّ الأرض وبدأ ينمو. كانت الزروع بنموّها الزاهي, رغم المسافات المتباعدة فيما بينها, نتيجة لهجوم العصافير وتقليب المحاريث, كانت بنموها قوية واثقة, وما كادت شمس نيسان تحتضنها بالدفء حتى انتعشت وتحرّكت أكثر من قبل. وإذا كان الفلاحون, بتفاؤل موهوم, يردّدون بإصرار أن ما يحتاجون إليه مطرة أو مطرتين في نيسان, الأولى في النصف الأول, والثانية في نهايته, ثم مطرة أخيرة في منتصف أيار, رغم هذا التفاؤل الذي يحاولون من خلاله أن يقنعوا أنفسهم قبل أن يقنعوا غيرهم, فقد كانت مثل هذه الأمنيات مستحيلة, لأن السنة من بدايتها كانت تنذر بالقحط. قال هذا المسنّون في داخلهم, وقال هذا عساف بصوت عال وأمام جميع الناس. ولو أن أحدًا سأل عسافًا عن السبب الذي يدعوه لأن يقول مثل هذا القول, لم يكن يملك جوابًا واضحًا أو مقنعًا. كان يكتفي بأن يقول:
– انتظروا, هذا ما أقوله, وسوف ترون كل شيء بعيونكم!
والناس حين يسمعون هذا الكلام من عساف تتملكهم العصبية ويصبحون سريعي الغضب, وأقرب إلى التحدِّي, لكن في قرارة أنفسهم يحسون أن ما يقوله هذا المجنون لا يشبه الكلام الذي يقوله غيره. إن فيه شيئًا من الحقيقة, حقيقة خفية غامضة, وربما مرتبطة بأمر لا يعرفونه.
ومثلما أحسَّ المسنّون, ثم توقعوا, بدأت كلمات التحذير تتسرب من أفواههم, ثم كلمات الخوف, وفي وقت لاحق قالوا بوضوح شديد:
– ستكون هذه السنة من أصعب السنين التي مرّت على الطيبة!
وبعد لحظات من التفكير والتذكر الحزين يضيف أحد المسنّين:
– لا أتذكر أن سنة مثل هذه مرّت على الطيبة من قبل.
ومثلما توقع المسنّون, ومثلما قال عساف حصل كل شيء بعد ذلك!
في هذا الغمّ الذي يلفّ الطيبة من كل جوانبها, ويزداد يومًا بعد آخر, كان عساف لا يهدأ ولا يستريح, إذ ما يكاد يعود بعد الغروب, حاملاً معه عشرات الطيور, حتى يبدأ يدقّ بعض الأبواب. كان يختار تلك الأبواب بعناية, ويفكّر في ذلك من قبل طويلاً. كان مع كل طلقة ينوي حتى قبل سقوط الطير: (أنت لأُم صبري), (وأنت لداود الأعمى), (وأنت لسعيد الذي لا يتقن في هذه الدنيا سوى إنجاب البنات)!
هكذا كان يفعل وهو يطارد الطيور. وحين يدق الأبواب, ولكي لا يخلق ذلك الخوف الغامض المتربص في كل القلوب, والذي يعلن عن نهاية صديق أو قريب, كانت الكلمات التي يطلقها عساف في الهواء وقبل أن يفتح له الباب:
– أنا عساف, جئت لأمسي عليكم!
وقبل أن يسمع الكلمات التي تنهال عليه, يكون قد ألقى بعض الطيور ومشى!
كان يفعل ذلك كل ليلة, ولا يبقي لنفسه إلاَّ طيرًا, وفي بعض الأحيان لا يبقي شيئًا. وحالما ينتهي من هذه المهمة, وعلى ضوء فانوس صغير يبدأ بتحضير خرطوش اليوم التالي. يبدأ مهمة لا تعرف التعب أو التوقف, ولا يكاد يأكل لقمة في نهاية السهرة حتى يغط في نوم عميق. وفي هذا النوم يرى أحلامًا لا حصر لها, كانت تتراءى له آلاف الصور: كيف كانت الطيبة وكيف هي الآن?! ويسأل نفسه: لماذا تصبح الحياة أكثر صعوبة يومًا بعد آخر?! أما حين تظهر له صور الأشجار والطيور, ثم صورة الماء الجاري دون توقف, وصورة الربيع يغطي مساحات لا نهاية لها, فكان يرى كل شيء يطير. كانت السماء تمتلىء بالطيور, وكان الصيادون لا يصيدون إلاَّ في المواسم والطيور التي يجب أن تُصاد. ثم تظهر له صور الذين ماتوا, أمَّا حين يبدأ المطر بالسقوط ويخاف أن توحل الأرض وتمنعه من العودة فكان يركض, وعند ذلك يفزع ويستيقظ من نومه وقد امتلأ خوفًا أن يكون الوقت قد فاته. وحين يحس برائحة الغبار تملأ جو الغرفة يفرك عينيه لكي يتأكّد من الوقت. كانت له ساعة في داخله لا تخطئ. لم تخطئ مرة واحدة طوال هذه السنين, لا تخطئ في الصيف ولا في الشتاء. حتى الذين كانوا يأتون إلى الطيبة من المدينة, ويستعدون كثيرًا من أجل رحلة الصيد مع عساف, وينصبون الساعات المنبّهة, ويصدرون الأوامر الصارمة إلى المسنّين لكي يوقظوهم في الوقت المناسب, لئلا يتركهم عساف ويمشي, بحجة أن الشمس ستشرق ويضيع اليوم, ولكي يكونوا في (المقوس) عند الشروق, حتى هؤلاء كانوا يخطئون وعساف لا يخطئ ولا تخطئ ساعته!
وعساف الذي تعوّد خلال فترة طويلة أن يخرج إلى الصيد وحيدًا مع كلبه, كان يجد صعوبة في أن يردّ الذين يطلبون الخروج معه, خاصة من الضيوف, أو في سنة من سنوات القحط. كان يتمنى لو يبقي وحيدًا, لكن ماذا يستطيع أن يفعل وقد أمْحلت الأرض وابتعدت الغيوم ولم يعد عند الناس شيء يأكلونه? حتى أماكن الصيد التي خبأها لنفسه في فترات سابقة, وكان يردّد لنفسه بإصرار أنه لن يترك أحدًا يصِلها, ولن يدل أحدًا عليها, لا يستطيع أن يمتنع طويلاً في إخفائها, لكن كان ينبه بتأكيد حازم:
– لا تقتلوا الإناث, إنَّها رزقنا الباقي!
وحين لا يكون متأكدًا أنهم فهموا جيدًا يضيف:
– الإناث, إناث الحجل, صغيرة ولونها واضح.
أما إذا سألوه مزيدًا من التوضيح والمعلومات فكان يقول:
– ديك الحجل, مثل بعض الرجال, جبان.
وينظر في وجوههم ويضحك, ثم يتابع:
– إنه يخاف على نفسه كثيرًا, وهو بلون زاهٍ, ملوَّن أكثر من الأنثى, ويطير قبلها!
ويهزّون رؤوسهم دلالة المعرفة, لكن عسافًا يخاف هؤلاء الصيّادين, ويكره الجبناء والخبثاء منهم, ويخاف أكثر من ذلك أن يأتي يوم لا تجد الطيبة طيرًا تصيده. كان يقول بصوت ملئ بالأسى:
– هذه الطيور لنا, اليوم أو غدًا, وستبقي لنا إذا حافظنا عليها. أما إذا قتلناها كلها, إذا طاردناها كثيرًا, فسوف تنتهي أو تبحث عن مكان آخر.
ويصرخ بعصبية وقد تراءت له الأرض خالية تمامًا من طيور الحجل:
– اسمعوا, إذا انتهت هذه الطيور وجاءت سنة من سنوات المحل, وإذا ظلَّت الحكومة تكذب سنة بعد سنة ولا تبني السدّ, فتأكّدوا أن أهل الطيبة سيموتون على بكرة أبيهم. أنا متأكد من ذلك, فهل يستطيع ابن حرّة أن يقتل البشر والطيور?
هكذا كان الحديث يجري في بداية كل رحلة. ورغم ذلك يضطر عساف لقيادة قافلة الصيادين إلى أماكن الحجل, لكنه يلجأ إلى المكر أغلب الأحيان: كان يقودهم إلى الأماكن الصعبة, إلى الأماكن البعيدة والخطرة, وكان يعرف أن التعب أو الخوف إذا دخل قلب الصياد يفقده كثيرًا من قسوته ويجعله رحيمًا. هكذا كان يفعل في بداية الموسم. أما إذا قست الحياة على الطيبة أكثر من قبل وحاصرها الجوع وبدأ يفتك بها, فكان يتردّد في أن يتجاوز كثيرًا من القيود التي كان يفرضها على نفسه وعلى الآخرين, لكنه يتألم, يشتعل بالشتائم ويرتكب الكثير من الحماقات. كان يقول لنفسه لكي يبرّر هذه الخطيئة التي تعذّبه: (إذا لم يأكل الناس الحجل فسوف تأكله بنات آوى والذئاب, وحتى لو نجا بعض هذه المخلوقات الملعونة, فسوف يأتي الرعيان لكي يلتقطوا البيض. ويجب ألاّ يموت أهل الطيبة).
إن له فلسفة خاصة تكوّنت مع الأيام ومن التجارب, حتى لو أراد أن يقول بضع كلمات لكي يفسر ما يدور في عقله فلن يستطيع. أما إذا سأله أحد لماذا يفعل هذا الشيء, ولماذا لا يفعل ذاك, فكان يشعر بالحيرة والعجز. كان يقول:
– هذه هي طريقة الصيد, هكذا يفعل الصياد!
ولا يضيف شيئًا آخر!
بهذه الطريقة كان يتعامل مع الصيد, وبهذه الفلسفة الغامضة يتصرف, ويريد من الآخرين أن يتصرفوا. فإذا جاء موسم الطيور المهاجرة يشعر بغبطة داخلية عميقة. كان يقول بصوت عال واضح النبرات, ويريد من كل إنسان أن يسمعه:
– ليشمّر كل واحد منكم عن زنده, وليثبت الصياد نفسه!
كان يقول مثل هذا الكلام لكي يضلِّل الصيادين الآخرين ويصرفهم عن الحجل. وهؤلاء الصيادون الذين تعبوا كثيرًا من الحجل, وحفيت أقدامهم وهم يتسلقون الصخور العالية أو وهم يهبطون الأودية السحيقة, كانوا في قرارة أنفسهم يقبلون هذا الكلام ويوافقون عليه, وفي نطاق التبرير يقولون لأنفسهم ولبعضهم:
– ما دام شيخ الصيادين, عساف, يقول هذا فيجب أن نصدّقه وأن نتبعه!
وكي لا يترك الأمر مكرًا مجردًا, كان يسبقهم إلى أماكن الطيور المهاجرة وممراتها, وكان لا يبخل عليهم بأي معلومات تساعدهم وتمكّنهم من صيد أوفر. وهم بتقدير غامض يندفعون, يذهبون حيث يريد, إلى الأماكن التي يحددها وفي الأوقات التي يحدّدها. بهذه الطريقة يضمن أن بعض طيور الحجل لا تزال حية في المعاصي. كان يقول لنفسه بثقة: (حالما تشعر بالأمن وبابتعاد أصوات الطلقات لا بدَّ أن تنزل إلى أماكنها وتعيش مرة أخرى بسلام. ومرة أخرى ستفقس وتبدأ الفروخ الجديدة تملأ الجبال والوديان)!
صحيح أن عسافًا في أعماقه يدرك أن كل حيوان وكل طير يعرف كيف يدافع عن نفسه وإلى أين يذهب, إلاَّ أنه حين يرى الصيادين الأغرار يزدادون قسوة ورعونة, ويخرقون كل قاعدة, كان يقول لنفسه بألم: (يقتلون الناس بهذه الطريقة. والحجل يعرف كيف يختفي ). ويضيف بعد فترة صمت طويلة: (حين طاردوا الغزلان وقتلوها كلها أصبحت الصحراء مثل قبر كبير, لا ترسل إلاَّ الغبار والموت, ويجب أن يكون أهل الطيبة أذكى من غيرهم فلا يقتلوا كل شيء).
كان الحجل, في مثل هذه السنين, وبغريزة غامضة, حتى بالنسبة لعساف نفسه, يعرف كيف يختفي , حتى ليبدو وكأنه انقرض نهائيًّا, ولن يأتي شروق أو غروب في يوم من الأيام القادمة ويسمع صوته مثل دجاجات تائهة في سفوح الجبال الشرقية. عند ذاك كان الصيادون, حتى الأغرار العنيدون, يتحولون. والذي يساعد كثيرًا في هذا التحول المفاجئ أن طيور الصحراء, خصوصًا القطا, تبدأ بالاقتراب يومًا بعد آخر من الطيبة, وباندفاعها الأرعن بحثًا عن الحب والماء تعرّض نفسها للهلاك, حتى الأولاد الصغار, في أوقات معينة, وبتلك الوسائل البدائية التي يملكونها, يستطيعون الاحتيال عليها واصطياد عدد منها!
لكن تبقي قوة الحياة هي الأقوى, إذ يتحول القطا, هذا الطائر الإبله, شيئًا فشيئًا إلى طائر جنّي, وبرغم الجوع والعطش فإنَّ قوة أخرى تسيطر عليه وتوجهه. فالقطا الطائش الذي يمكن أن يقتل بالعشرات والمئات في بداية الموسم, والذي لا يميز الصياد من الفلاح, لا يلبث أن يصبح طيرًا حذرًا. والصيادون الذين يبدون نوعًا من الترفع في بداية الموسم, ويصفون القطا بعشرات الأوصاف الرديئة, يصفونه بقسوة لحمه وغبائه, وبانعدام اللذة نهائيًّا في صيده, حتى هؤلاء يجدون أنفسهم يومًا بعد آخر وقد انساقوا إلى ملاحقته. وفي هذه الفترة, ولتبرير هذا السلوك, يقولون بصوت عال فيه تلك الكبرياء التي تميّز الصيادين المغرورين:
– ضُرب وتنكّح, وأصبح أكثر حذرًا من الطيور الأخرى.
ويضيف بعض هؤلاء بثقة كبيرة:
– إن صيده الآن أصعب من صيد الحجل!
هكذا تبدأ الدورة تتغير. والطيبة التي تعيش أيامًا صعبة مريرة, وتبحث عن طريقة لتواصل الحياة, تتغاضى عن أشياء كثيرة, بما فيها رعونة الشباب واندفاعهم إلى الصيد بهوس لم يتعوده أحد ولم يكن يميزهم من قبل.
– هذا الجنون الذي يملأ عقولكم لا بدَّ أن يقضي على الصيد كله.
وبكلمات قاسية, وفيها ذلك النزق الذي يميزه, يضيف:
– الأيام الصعبة لم تأتِ بعد, وعلينا أن نستعد لتلك الأيام!
فإذا سمع كلمات السخرية والتحدي, وإذا اتهموه أنه يريد التهرب, كان بانفعال يجيب:
– إذا وفّرتم الخرطوش, إذا كنتم أكثر عقلاً وصبرًا, فالقطا سيصل إليكم, ولن تحتاجوا لأن تذهبوا إليه!
لكن الشباب لا يسمعون, وتظل دوافع مشؤومة وقوية تدفعهم لأن ينتقموا, لأن يتباروا. وتحديات مثل هذه تدفع الطيبة ثمنها. فالطيور التي كانت تهجم برعونة في بداية الموسم, لا يلبث الخوف أن يتملكها, وتبدأ البحث عن أماكن أخرى, أو تغير مواعيد مجيئها وهربها. بكلمة; تغيِّر هذه الطيور طريقة حياتها, وتصبح الحياة لكل مخلوق أكثر قسوة وأكثر صعوبة. حتى عساف نفسه, الذي كان يعود بأعداد وفيرة من الطيور, يبدأ يواجه الصعوبة نفسها التي يواجهها الصيادون الأغرار, ويبدأ صيده يقل, ويصبح الصيد عملاً مضنيًا وأقرب إلى المغامرة.
لكن عسافًا لا يهدأ ولا يتوقف!
بدأت إذن الأيام الصعبة القاسية. ومثلما اختارت الطيبة أن تكون في هذا الموقع من العالم, على أطراف البادية, فقد اختارت الصيد والشجاعة, وعرفت كيف تتحمَّل كل ما يواجهها من مكاره وصعاب. وإذا كانت المجاعات تفرّق عادة بين الناس, وتجعل كل إنسان يبحث لنفسه عن طريقة يؤمِّن بها خبزه, فإنَّ المجاعات والأحزان تقرِّب بين الناس في الطيبة, وتجعلهم أُسرة واحدة وجسدًا واحدًا. وما عدا تلك الفئة الصغيرة التي جاءت من مكان بعيد, واختارت الطيبة سكنًا لها, وظلَّت تعمل وتتصرف بروح الغرباء وخوفهم, رغم ما قدَّم لها أهل الطيبة, فإنَّ البشر إذا واجهوا المصاعب بروح من التعاون والمشاركة, تبدو هذه المصاعب أقل قسوة, ويمكن التغلُّب عليها. وبهذه الطريقة الفذة المليئة بالبطولة الصامتة, لم يترك أحد يموت دون أن تقدم إليه أقصى المعونات, وأغلب الأحيان بشكل خفي لا يدركه أحد. فالأُسر الكبيرة العدد, والتي لا تقوي على مواجهة الحياة, كانت تفتح أبواب بيوتها, في ساعة من ساعات الليل أو النهار, ويُرمى داخلها بكمية من الحنطة أو قليل من السكر والشاي والصابون. والناس الذين فقدوا كل ما يملكون ثمنًا للبذار, ثم ثمنًا لبعض الأشياء التي اشتروها من المدينة, كان هؤلاء يجدون مساعدة لا تيسر للذين هم أكثر قدرة منهم. حتى المقعدون وذوو العاهات, قد تكفَّل بهم عدد من الشباب, وكانوا يقدّمون لهم الأكل المطبوخ, وغالبًا ما يكون حساء من الطيور أو الهريسة. أمَّا النساء الأرامل فقد كنَّ في هذه الفترة موضع رعاية كبيرة.
لكن الطيبة التي تستطيع أن تطعم أبناءها أجزاء من لحمها لا تقوي على مواجهة مثل هذه المصائب سنة بعد أخرى بصدرها المكشوف وإمكاناتها المحدودة. وبرغم أن المسنِّين حذّروا كثيرًا من الإسراف, وطلبوا من كل بيت أن يقتصد ما وسعه الاقتصاد, وأن يَعُدَّ الأيام التي لا تزال الطيبة تعيشها الآن أيامًا رخية, وبعدها ستأتي المصائب الكبيرة كثيفة متلاحقة, فإنَّ الطيبة ظلت تعيش على أمل غامض, وظلت تنتظر شيئًا ما, لكن هذا الأمل لم يتحقق كما توهَّمه الكثيرون, وأصبح الانتظار طويلاً ممضًّا!
والأبناء في المدن البعيدة لم ينتظروا صرخات الاستغاثة وإنَّما بادروا إلى تقديم كل ما يستطيعون. بعثوا بكميات من الحنطة والشعير, وبعثوا بالعدس والسكر والشاي والصابون, وبعثوا أيضًا يطلبون أن يأتي عدد من الأهل والأصدقاء, لينزلوا عندهم في المدينة. وأهل الطيبة, خصوصًا الذين تقدَّموا في العمر, لا يقوون على الاستجابة لمثل هذه الطلبات, ولا يتصورون أنفسهم يرحلون تاركين غيرهم للموت جوعًا وعطشًا. إن مجرد تصور شيء مثل هذا يولِّد في النفوس خجلاً لا يستطيعون احتماله, ولذلك لا يجيبون عن مثل هذه الرسائل, ولا يلبونها. والأبناء الذين رحلوا, وظلوا على صلة مع البلدة يعرفون جيدًا أن ما يطلبونه أقرب إلى المستحيل, ولن يستجيب إليه أحد, ولذلك بالغوا أول الأمر في إرسال كل ما يستطيعون, ثم بدأوا يتوافدون إلى البلدة, للزيارة أول الأمر, ثم للمشاركة بطريقة ما من أجل الوقوف في وجه هذا الكرب القاسي, لعلهم يستطيعون عمل شيء, أو أن يتعلموا شيئًا. كانت الزيارات تمتد أيامًا وتتكرّر في أوقات متقاربة, كما لا تقتصر على المشاركة الوجدانية أو الرغبة في تعذيب النفس, وإنما كانت ترافقها أشياء كثيرة: كميات إضافية من الحنطة والشعير, أثواب من الخام, وكانت تأتي معها الوعود والكلمات الكبيرة. وإذا كانت تلك الوعود أقسى الأشياء وأصعبها لكل إنسان في الطيبة, فقد أصبحت في هذه السنة عذابًا لا يطيق أحد أن يتحمله. (لم يبق إلاَّ القليل ويبدأ بعد ذلك بناء السد. والسد إذا قام لن تعطش الطيبة ولن تجوع. هكذا قال لنا الرجال المهمُّون في العاصمة), وقالوا أيضًا: (إنه قبل نهاية الخريف, وقبل موسم الأمطار, ستبدأ الآلات تشق التربة وتدفع أمامها الصخور, وسوف يأتي مئات العمال والمهندسين, وسترون ذلك بأعينكم!).
وأهل الطيبة الذين يقبلون الأشياء التي تأتي ويوزعونها بعدالة مفرطة, كانوا يسمعون كلمات المدينة الكبيرة, ويسمعون عن السد الترابي الذي سينشأ قريبًا من الطيبة, ليجمع المياه التي تتدفق سيولاً جارفة في بعض المواسم, ثم تنتهي إلى باطن الأرض. ولا أحد يعرف كيف تغور هذه المياه أو إلى أين تذهب, ولا تبقي من تلك السيول غير تلك الكميات الكبيرة من الحصى والمجاري العميقة التي جرفت أجزاء من الأراضي والبساتين! ولا تبقي أيضًا سوى الكلمات الكبيرة والوعود!
كان أهل الطيبة يسمعون ذلك بصمت حزين, ولا يدرون أيكذبون أبناءهم أو أولئك الرجال الرابضين هناك في الأبنية الكبيرة المغلقة? كانوا يقولون لأنفسهم: (لقد قيل لنا مثل هذا الكلام مرات كثيرة, وتنقضي السنوات, سنة وراء سنة, ولا شيء
يتغير). وأهل الطيبة الذين تعوَّدوا نسيان السد والطريق والكهرباء في مواسم الخير, ولم يفكِّروا يومًا واحدًا أن يحصلوا على مثل هذه الخيرات, فإنَّهم في مواسم القحط يتذكرون كلّ شيء, يتذكرون هيئات الرجال الذين أتوا, والكلمات التي قالوها, ويتذكرون أن بعض الذين جاءوا زائرين مع أبناء لهم إلى الطيبة في سنوات سابقة, سنوات الخصب والمواسم الطيبة, وذهبوا إلى الصيد أيضًا في المناطق المحيطة بالبلدة, ورجعوا وقد امتلأوا بنشوة, وتصرفوا في لحظات معينة مثل الأطفال, وبدوا صادقين- إن بعض هؤلاء أصبح في المدينة البعيدة كبيرًا مهمًّا, بحيث لا يذكر اسمه إلاَّ كما تذكر أسماء الأنبياء والأولىاء. إن هؤلاء لم يعودوا يتذكَّرون الطيبة, ونسوا أصدقاءهم, وانتهى الأمر. والطيبة تعض على جراحها في مواسم القحط والجفاف. أما في مواسم الخير فلا تكف عن أن تبعث بسلال المشمش في بداية الموسم, ثم بسلال العنب والتين في نهايته, وبين الموسمين تبعث اللبن والجبن والبيض والخراف الصغيرة أيضًا, ولا تنتظر شيئًا من المدينة. تبعث الطيبة كل هذا برضا أقرب إلى الحبور. ويتصور الآباء والأمهات, وهم يبعثون بالسلال وأكياس اللبن في السيارة الصغيرة التي تذهب في الصباح الباكر, أنَّهم لا يقومون بواجب فقط, وإنما يحسّون بالمرارة والحزن إن تأخَّروا عن موعد سيارة الموظفين, أو إن لم يستطيعوا قطف التين في الوقت المناسب! والطيبة التي لم تتنكر ولم تتغير, وظلَّت وفية لكل شيء فيها ولكل إنسان عاش فيها أو مرَّ بها في يوم من الأيام, خلقت هذا الوفاء الفذ في أبنائها, والذي لا يوجد مثيل له فيما جاورها من القرى, ولا يوجد أيضًا في القرى البعيدة.
في هذه السنة القاسية الملعونة جاء عدد كبير من أبناء الطيبة, جاءوا دون طلب ودون إيعاز من أي نوع, وما كادت أرجلهم تطأ أرض الطيبة, وعيونهم تلامس بيوتها, حتى أحسُّوا بالحزن العميق, ولاموا أنفسهم كثيرًا على أنَّهم تأخروا حتى هذا الوقت, وشعروا بتأنيب الضمير حتى قارنوا حياتهم في المدينة بحياة الناس في الطيبة. لكن هذا الحزن وهذا الندم تراجعا بسرعة ليحل مكانهما الرغبة القوية في أن يفعلوا شيئًا, لعلَّ الطيبة تنجو هذه المرة, ولعلها تحيا وتستمر إلى أن يُبنى السد, أو يقع شيء ما في المدينة البعيدة, ويصبح من الممكن بعد ذلك مواجهة الطبيعة القاسية دون انتظار للوعود الكاذبة أو للمطر الإبله الذي يأتي سنة وينقطع سنوات.
نزع الذين وصلوا لتوّهم ملابس المدينة, ولبسوا مثلما كانوا يفعلون حين كانوا في البلدة قبل سنوات. وخلال اليوم الأول مروا على أكثر بيوت الطيبة, وسألوا عن الرجال والنساء, وحزنوا كثيرًا على الذين ماتوا, وفكّروا في أمور واقتراحات كثيرة, وقرَّروا بينهم وبين أنفسهم عدة أمور, إن هم عادوا إلى المدينة مرة أخرى. لم يكتفوا بذلك, بل وزعوا ما جاءوا به, وكتبوا رسائل عديدة إلى أقرباء وأصدقاء في المدينة البعيدة وفي المهجر. وفي الليل سهروا طويلاً يفكّرون ويتكلمون, لكنهم كانوا يحسون في أعماقهم بالمرارة تكوي لهاتهم مع كل كلمة يقولونها, لأنَّهم لم يكونوا متأكدين من شيء!
وإذا كانت الطيبة كثيرة الصبر والتسامح, وتغفر للغرباء مثلما تغفر لأبنائها, فإنَّها تعرف الغضب في مواسم الجفاف, وهذا الغضب الذي قد يأخذ شكلاً هينًا في بعض الأوقات يتحول في النهاية إلى جنون لا يطيقه ولا يتصوّره أحد.
قال أحد القادمين, وكان شابًّا يدرس في مكان بعيد:
– الناس هناك لا يفعلون كما تفعلون أنتم هنا, إنَّهم, هناك, يحوّلون الكلمات إلى قوة. قوة منظمة ومحاربة, ويجب أن نفعل مثلهم شيئًا عاجلاً قبل أن يلتهمنا الموت.
قال رجل مسنّ, وهو يقلب شفتيه باستنكار, ويقلب نظراته بين الأرض والسماء:
– وماذا تريدنا أن نفعل?
وقبل أن يجيب الشاب تابع الرجل:
– يجب أن تعرف, لا أحد يستطيع مقاومة الحكومة. علينا أن نكون عقلاء ونفكِّر فيما نستطيع عمله.
قال الشاب بعصبية:
– القحط إذا جاء تنامون سنةً كاملة, وإذا لم يجئ ترسلون الدعاء والرسائل ولا شيء غير ذلك, وبهذه الطريقة لن تبقي الطيبة!
قال والد ذلك الشاب:
– الطيبة, يا ولدي, باقية, لقد مرَّت سنوات صعبة كثيرة مثل هذه, تحمَّل الناس تلك السنوات وعاشوا بعد ذلك, وظلَّت الطيبة.
ردَّ الشاب بسخرية:
– الموت والحياة في مثل هذه الظروف متساويان. انظروا إلى الأرض والأشجار والدواب. وانظروا في وجوه البشر, إن كل شيء يموت, وإذا جاءت سنة مثل هذه السنة فلن يبقي شيء!
كان يمكن لهذا الحديث أن يستمر وأن يتطوّر لكن حين دخل الضيوف, الذين جاءوا عصر ذلك اليوم, إلى المضافة, تغيَّر الجو فجأة.

 

 

في عصر ذلك اليوم, في نهاية فصل الصيف تقريبًا, جاء أربعة من الضيوف, جاءوا مع أصدقاء لهم من أهل الطيبة, جاءوا في سيارتين, إحداهما سيارة جيب والأخرى فولكس فاكن صغيرة رمادية. وعلى الرغم من أن أبناء الطيبة, المقيمين والراحلين, يتميَّزون برهافة الحس ودماثة الخلق, ويعرفون كيف يعضُّون على جراحهم بصمت ويكتمون أحزانهم بصبر عجيب, حتى يخطئ الكثيرون في فهمهم أو تحديد مشاعرهم, فإنَّ الكثير من المتاعب والمشاكل التي يريدون بحثها والحديث فيها حين يخلون لأنفسهم, يتركونها جانبًا, ويتحدَّثون بطريقة مختلفة حين يأتي الضيوف. والمسنُّون الذين تعوَّدوا على كتم مشاعرهم وانتظار الأوقات المناسبة للحديث, يختلفون عن الرجال الأصغر سنّا, إذ يُصاب هؤلاء بنوع من الحمى ولا يقوون على كتم الأفكار والمشاعر التي تملأ صدورهم, خاصة في موسم مثل هذا الموسم.
كانت هناك رغبة لأن يتحدث بعض الرجال للمرة الأخيرة, أمام الضيوف. وإذا كان الكثيرون من أهل الطيبة قد انتظروا بصبر فارغ مجيء الأبناء من المدينة, لكي يتحدّثوا للمرة الأخيرة, في أمر السد, متى يجب أن يقوم وماذا فعلوا من أجل قيامه, وأنهم لم يعودوا قادرين على الانتظار أكثر مما فعلوا, وإذا صبروا وتحمَّلوا السنين الماضية بصمت فلن يستطيعوا بعد اليوم احتمال ذلك, وسوف يلجأون إلى وسائل جديدة لإقناع الكبار هناك في المدينة, بمدى القدرة التي يمتلكونها.
إذا كان أهل الطيبة قد انتظروا طويلاً, فقد خاب ظنُّهم تمامًا حين رأوا عصر ذلك اليوم سيارتين غريبتين تدخلان الضيعة. أمَّا حين تعانق الآباء والأمهات مع أبنائهم العائدين, فقد طغت للحظات قوة الحب على قوة العتاب, وجاشت الدموع في العيون وغلبت جميع المشاعر الأخرى. ونتيجة ذلك تراجعت الأفكار والكلمات الغاضبة لتحل مكانها مشاعر المودة وكلمات الترحيب. والضيوف الذين لم يروا الطيبة قبل هذه المرة, لم يروا فيها شيئًا مختلفًا, ولم يحسوا بذلك الدوي الداخلي الذي يولّده الجفاف. أمَّا حين قابلتهم الابتسامات الواسعة والترحيب الحار فقد أحسُّوا بدفء داخلي وحسدوا هؤلاء الناس على هذا الرضا الذي يمتلكونه!
بهذه الطريقة تأجَّلت أُمور كثيرة وحلَّت أخرى مكانها. فالأشياء التي حملها الأبناء من المدينة وُزِّعت بعناية, واختلى بعض المسنِّين لينصحوا بعضهم بعضًا أن يتصرفوا بحكمة, ولكي يطلبوا من الشباب احترام الضيوف مثلما تعوَّدوا دائمًا, دون إثارة لأي أحزان أو مشاكل. وقالوا في أنفسهم: (سيبقى الضيوف يومًا أو يومين ثم يرحلون, وبعد ذلك سوف نقلب الدنيا على رؤوس هؤلاء الأبناء العاقّين, الذين لا يعرفون شيئًا في الدنيا سوى إرسال بعض الحاجات في مواسم الجفاف, وكأن الطيبة أصبحت مأوى للمتسوّلين والجياع, ويجب أن تبقي كذلك). أما الوعود الكثيرة عن المياه التي ستتدفق طوال أيام السنة, أمَّا عن الأسماك التي ستزرع في البحيرة, عن القنوات التي ستمتد إلى مسافات بعيدة, فقد انتهى الأمر كله, ولم يبق إلاَّ صدى الكلمات يتردّد كل بضع سنين, شفقة أو حسرة على هذه البلدة التي تموت يومًا بعد يوم.
هكذا كانت الساعات الأولى, وهكذا كانت مشاعر
الناس, وأبناء الطيبة الذين أحسُّوا بغريزتهم أن كل شيء قد تغيَّر في البلدة, وأن الأيام التي يعيشها أهلها من القسوة إلى درجة لم يكونوا يتصورونها, ورأوا التغيُّرات العميقة التي دخلت في كل شيء يلمحونه. شعروا أنهم أذنبوا كثيرًا, وأن أي كلمات تقال الآن لا بدَّ أن تكون عاجزة ولا تعبِّر عمَّا تفيض به قلوبهم. ولأنَّ الضيوف قد أتوا, ولأنَّهم تعوَّدوا على شكل معين من التصرفات, فقد فهموا من النظرات, من الإشارات, وحتى من لمسات الأيدي, أن الطيبة تغلي ولا بدَّ أن تنفجر بشكل أو آخر, لكن هذه المشاعر تُركت جانبًا, لأنَّ الضيوف بدا لهم كل شيء غريبًا وطريفًا!
أمَّا حين انعقد مجلس السمر فقد تركَّز الحديث على الصيد, لأنَّ الضيوف جاءوا لهذه الغاية. وما دام الضيوف يريدون هذا, فإنَّ هذا ما حصل!
وأهل الطيبة الذين كانوا قادرين على التحدِّي والغضب في أوقات معينة, كانوا قادرين أيضًا على الصبر, ويلجأون إلى كل الوسائل لمواجهة الجوع والموت. وحين يُذكر الصيد وسيلة لمواجهة المجاعة, وإنقاذ ما يمكن إنقاذه, تتردّد كلمة واحدة, وكأنَّها كلمة السر: أين عساف? ودون عناء كبير يتبرع الكثيرون لمناداته, لإحضاره. وفي غمرة الحزن والجوع والتحدِّي ومواجهة الموت, ومن أجل التغلُّب على الحزن والجوع والموت, تفلت كلمة ساخرة, أقرب إلى الدعابة. يقول أحد الحاضرين, ليتغلب على المناقشة الحادة التي بدأت ولا يعرف كيف ستنتهي:
– نريد عسافًا, احضروا عسافًا حيًّا أو ميتًا!
دخل عساف عصبيّا مخطوف الوجه, وبغمغمة لا تكاد تُفهم, ألقى التحية, وجلس قريبًا من الباب. وأهل الطيبة الذين تعوَّدوا على عساف, وقبلوا جنونه, رفضوا بكثير من الإصرار أن يصطحب كلبه معه إلى سهراتهم وإلى مجالسهم. وهذا الرفض الذي آذي عسافًا كثيرًا, قابله برفض أشد قسوة وأشد إصرارا, حتى انتهى الأمر إلى ذلك الاتفاق الضمني بأن يدخل عساف إلى المجلس دون أن يصافح أحدًا, وأن يبقي كلبه قريبًا من الباب. وإذا كان عساف قد قَبِلَ هذه الشروط مكرهًا, فإنَّ علاقته بمجالس البلدة وأحاديثها قليلة إلى درجة أن الناس لا يرونه إلاَّ نادرًا. أما إذا جاء ضيف إلى البلدة من أجل الصيد, فقد كان أوّل الذين يجب دعوتهم وحضورهم هو عساف. وعساف الذي لا يحب حضور المجالس, يكره أيضًا هؤلاء الضيوف, ويًعُدُّهم, في أغلب الأحيان, ثقلاء شديدي البلادة والخور, لكن مثلما علّمته الطيبة, كان مضطرًّا إلى مصاحبتهم وإلى مجاملتهم, ومن أجل ذلك كان يتحمَّل الكثير!
في هذه الأمسية, وحين أتوا بعساف, أحسَّ أن الأمر غير عادي. أمَّا حين جلس قرب الباب وأجلس كلبه إلى جانبه, فقد سمع أكثر من صوت يدعوه إلى صدر المجلس, وإزاء رفضه, نهض واحد من أبناء الطيبة القادمين مع الضيوف, ومدَّ يده يحيِّي عسافًا بحرارة أول الأمر, ثم يسحبه بقوة لكي يغيِّر مكانه. استمر الأمر بعض الوقت, بين القبول والرفض, إلى أن اقترح أحد المسنِّين انتقال عساف وبقاء الكلب حيث كان.
إن في حياة كل إنسان لحظات من الخصوبة لا يدركها, ولا يعرف متى أو كيف تأتيه أو كيف تنفجر في داخله. إنَّها تندفع فجأة, تعربد مثل الرياح أو مثل الأمطار الغزيرة المفاجئة, وتطغى على كل شيء, ومثلما تأتي فجأة تنتهي كذلك, وكأنَّها مياه غارت لتوّها في أرضٍ رملية عطشى!
هذه اللحظات لا يخطط لها أحد ولا يدبرها أحد, حتى لو أراد. وعساف الذي جاء مكرهًا, ليلتقي ببعض الوجوه التي لم يرها من قبل, وقد لا يراها مرة أخرى بعد أن تغادر الطيبة, والذي أغضبته كلمة أحد المسنِّين حين طلب منه أن يُبقي كلبه عند وصيد الباب, وجد نفسه فجأة في عالم من الوجد وأقرب ما يكون إلى التجلِّي, إذ ما كاد يُسأل عن الصيد, وعن عدد الطيور التي صادها ذلك اليوم, وكيف كان الموسم بصورة عامة, حتى أحسَّ بالاختناق, وتمنَّى لو أنه لم يأتِ, وتمنَّى أكثر من ذلك لو يستطيع مغادرة المجلس. لكنه كان يعرف أهل الطيبة, يعرف مقدار الود القاسي الذي يكنُّونه له, ويحس أن رابطة عمرها مئات السنين تربطه بكل ما حوله من أرض وبشر وأشجار ومياه, وأن هذه الرابطة تكون أشد وأقوى حين تمر سنة صعبة مثل هذه السنة التي تمر على الطيبة.
كان مصممًا, أول الأمر, ألاّ يتكلم, فإذا حاصروه بالأسئلة, ولم يجد مجالاً للهرب, فلا أقل من بضع كلمات يقولها, لكن فجأة امتلأ بشعور الألفة والتحدِّي معًا, وأحسَّ أن قلبه يخفق بضربات سريعة أكثر مما تعوّد حين يكون في مثل هذا الموقف, وقرَّر أن يفعل شيئًا لم يفعله من قبل.
يتذكّر هو نفسه, ويتذكّر كل مَن كان موجودًا, أنه لأول مرة في حياته, قرَّر أن يخوض معركة لم يخض مثلها من قبل, رغم ما يُقال دائمًا من أن حياته منذ بدأت معركة متصلة, إذ ما كادت الأسئلة تنهال عليه, وكلها عن الصيد, حتى صرخ بتحدِّ:
– تعال… تعال يا حصان!
وانتفض الكلب فجأة, ومثل حية ملساء, انسل ليجلس عند أقدام عساف.
كانت الحركة مفاجأة, لم يتوقعها أحد, وللحظات خيَّمت الدهشة وعمَّ الذهول. والمسنّون الذين يملكون, أغلب الأحيان, الحق بالأمر والنهي, أحسُّوا أن صوت عساف, وهو يدعو كلبه, غير مألوف, ولا يمكن مقاومته. تبادلوا النظرات فيما بينهم, ونظروا إلى عساف, لكن لأول مرة في حياتهم الطويلة الحافلة يكتشفون في عينيه بريقًا قاسيًا وحشيًّا, ودون وعي أو إرادة, تراجعت كلمات الاعتراض لتحل مكانها هزات الرؤوس تعبيرًا عن الأسف وشيء من العتاب.
لم ينتظر عساف, اعتدل في جلسته, أجال نظرة طويلة في وجوه الناس الذين خيَّم عليهم الصمت, وبطريقة مليئة بالمحبة والحنان معًا, امتدَّت يده إلى الكلب, مسَّد على ظهره أكثر من مرة, ودون أن ينظر إلى أحد, وكأنَّه يخاطب نفسه, بدأ:
– ماذا تظنُّون يأهل الطيبة? هل تظنّون أن هذه السنة مثل السنين القاسية التي مرَّت عليكم? هل تظنون أنَّكم ستواصلون الحياة حتى تأتي الأمطار مرة أخرى? إن مَن يظن ذلك أقرب إلى الجنون.
توقف لحظة. عبَّ نفسًا عميقًا من سيجارته, وتطلع في وجوه الرجال مرة أخرى, ثم تابع:
– قلت لكم ألف مرة: لم يبقَ بيننا وبين الموت إلاَّ ذراع, وهذه الذراع هي الصيد الذي نستطيع أن نوفره حين تأتي الأمطار مرة أخرى. قلت لكم مئات المرات وأنتم لا تسمعون هذا الكلام, وبدل ذلك تزدادون حماقة يومًا بعد يوم. قلت لكم: اتركوا إناث الحجل للسنوات القادمة, إنها رزقنا الباقي. قلت لكم: وفّروا الخرطوش ولا تُفزعوا الطير, وعندها سيأتي إليكم بدل أن تذهبوا إليه, لكنكم يومًا بعد آخر تزدادون عنادًا وتحدّيًا. قلت لكم: انقلوا من النبع حِمْل حمارين أو ثلاثة حمير وارموا بها في الخوابي القريبة, ثم اربضوا هناك حتى تأتي الطيور, فامتلأت وجوهكم بالابتسامات الساخرة, وقلتم: عساف انهبل, لأنه يطلب منا أن نبذر ما تبقَّى لنا من الماء ونرميه في الصحراء. والآن تأتون بهؤلاء الأفندية وتتظاهرون بالنبل والكرم وتطلبون من عساف أن يصطحبهم إلى الصيد, وأن يجعلهم يصيدون! ماذا يستطيع أن يصيد هؤلاء أو غيرهم ما دمتم ملأتم الدنيا بالطلقات المجنونة تبذرونها في الهواء, حتى لم يبق طير من طيور السماء أو حيوان من حيوانات الأرض إلاَّ وسمع عددًا لا حصر له من الطلقات?
وحرَّك يديه بطريقة يائسة, وتطلّع في وجوه الضيوف, ثم تابع بلهجة جديدة:
– يا سادة, كان الحجل يصل إلى أبواب البيوت. كانت الغزلان والأرانب تملأ السهل كله. كانت ممرات الترغل كثيرة إلى درجة أن عسافًا نفسه يحتار إلى أين يذهب وأي الممرات يفضّل. هكذا كان الأمر في الأوقات السابقة, وأهل الطيبة بدل أن يحافظوا على هذه النعمة, لم يتركوا أي ابن عاهرة ولمسافة ألف كيلو إلاَّ ودلُّوه على الطيبة. اعذروني, أنا لا أقصد أي واحد منكم, أنتم على عيوننا وعلى رؤوسنا, لكني أقصد الصيادين الآخرين الذين يأتون من كل مكان, وكأن ليس في الدنيا سوى الطيبة, وهؤلاء الذين يأتون لا يعرفون سوى شيء واحد: القتل. كانوا يقتلون كل ما تقع عليه أعينهم. كانوا يقتلون إناث الحجل قبل ذكورها, لأن الذكور وهي تجفل وتطير من الخوف, كانت تخلّف في قلوب هؤلاء الصيادين خوفًا كبيرًا, وبعد أن يستعيدوا شجاعتهم تطير الإناث فيضربونها. والشيء نفسه يفعلونه بالغزلان والأرانب وكل الحيوانات الأخرى, وحين يعودون محملين بالصيد الكثير لا يكتفون بأن يعودوا إلى هنا مرة أخرى. إنهم يدلّون أصدقاءهم وأصدقاء أصدقائهم, إلى عاشر جدّ, ويحضرون معهم أنواعًا من السلاح لا يتصورها عقل ولا يقاومها صخر. وبهذه الطريقة, وسنة بعد أخرى, أقفرت الطيبة. والآن تريدون من عساف أن يستولد لكم الطيور والحيوانات ولا أعرف أي عفاريت أخرى? ماذا يستطيع عساف أن يفعل? هل هو مسيح جديد? هل هو الذي يبيض ويفقس?).
ومن جديد امتدَّت يده لتستقرَّ على ظهر الكلب, وينظر إلى الوجوه التي اعترتها الدهشة وخيَّم عليها الصمت:
– لم يخلق الصيد للأغنياء أو الذين يقتلهم الزهق والشبع. لقد خلق للفقراء, وللذين لا يملكون خبز يومهم. وعساف الذي قضى حياته كلها في البرية لا يصيد في مواسم الخير إلاَّ ما يملأ معدته ومعدة هذا الحيوان. أمَّا في مواسم الجفاف, ولكي لا يموت الناس في الشوارع, فيمكن أن يكون الصيد حلاً, كما هو الحال ونحن نستبدل بخبز القمح خبز الشعير, لكن لا أحد يفهم في الطيبة وفي غيرها من المدن والقرى. إن الإنسان في هذه الأيام يمتلك روحًا شريرة لا تمتلكها الذئاب أو أي حيوانات أخرى, ولهذا السبب نواجه اليوم الجوع, وسيكون الجوع غدًا أشد وأصعب. إنَّني أرى ذلك كما أراكم الآن. وإنَّني أخاف من الغد أكثر مما أخاف اليوم الذي أعيش فيه. هذا ما صنعناه بأيدينا!
وبطريقة أقرب إلى الفظاظة واليأس تحرَّك عساف يريد أن ينهض ليمشي. وإذا كان كلامه قد خلق جوّا متوترًا, شديد الحرج, خاصة لأهل الطيبة تجاه ضيوفهم, فإنَّ حركة غير عادية سرت في الجميع. كانت حركة سريعة غامضة, وفيها ذلك الاحتجاج اللذيذ الذي يشيع الاعتراف الضمني بأن ما قاله ذلك المجنون هو الحقيقة ذاتها, ولا يمكن لأحد أن ينكرها أو يتنكر لها, وأن ما قاله كان يجب أن يُقال!
قال نعيم, وقد جاء مع الضيوف من المدينة, وتحدَّث معهم كثيرًا عن الصيد في الطيبة, وعن عساف ومقدرته الفائقة في الصيد, وتحدّث أيضًا عن غرابة طبعه, قال ليخفف من كلام عساف:
– ما قلته, يا عم عساف, هو الحقيقة, لكن أنت تعرف أي جنون يعيش في قلب الصياد!
قال أحد الضيوف, بلهجة مستسلمة, وكأنَّه يدافع عن نفسه:
– لقد انقطع الصيد في كل المنطقة, وليس في الطيبة وحدها!
ولأول مرة يقهقه عساف, كما لم يفعل ذلك في حياته إلاَّ مرات قليلة, وقال بصوت مليء بالسخرية:
– ومَن قال إن الطيبة وحدها يسكنها المجانين?!
ولكي تفهم كلماته جيدًا أضاف:
– لقد وصل الجنون إلى كل مكان. وهذه الأسلحة الجديدة ما كان لها أن توجد, حتى لو صنعها بعض المجانين في الأماكن البعيدة, ما كان لها أن تصل, أو أن تستعمل في الصيد. إنَّها تقتل كل شيء, ولا تبقي شيئًا!
ومن جديد عاد إلى لهجة السخرية:
– إذا كانت المناطق الأخرى تنعم بالمياه والخضرة, وتحصل على ما تريده دون عناء, لأنَّ منها الحكام والعسكر, فإنَّ الطيبة بلدة مسكينة, إذا أمطرت الدنيا وجدت لقمتها, وإذا أمْحَلت مات الناس جوعًا!
ومرة أخرى تغيَّرت لهجته:
– فيما مضى, قبل سنوات كثيرة, كنا نحارب الجوع ونتغلب عليه بالطيور التي تأتي, بالحيوانات التي تقترب من البلدة, وكنا نقاوم الجوع حين نأكل الجراد والجرابيع, أمَّا هذه الأيام فلم يبقَ شيء. فإذا استمرت الحال هكذا فلن تمضي فترة قصيرة حتى تصبح الطيبة مأوى للبوم والوطاويط!
قال ضيف آخر بلهجة خجولة وهو يستعرض صورة الطيبة:
– سمعت أن سدًّا سيُبنى عندكم, وأن هذا السد سيروي مساحات واسعة, أليس كذلك?
قال أحد المسنِّين:
– مثلما سمعت, يا ولدي, سمعنا. الفرق بيننا وبينك, أننا سمعنا هذا منذ وقت طويل, ولقد قال لنا ذلك الكبار في المدينة, لكن مَن يدري!
وضحك الرجل بنوع من السخرية وهزَّ رأسه بأسف.
قال مختار الجهة الشرقية:
– اتركوا الآن هموم القرية. المهم أن ترتبوا مشوارًا مناسبًا للصيد, وهؤلاء الكرام لن ينسوا الطيبة, ولن يوفروا أي جهد من أجل إقناع المسؤولين لبناء السدّ بسرعة!
وتحوَّل الجو فجأة. هجم أحد القادمين على عساف, وقبَّله على رأسه, وقال بطريقة مغرية:
– ستكون قائد الحملة يا بطرس, وسوف نعود بصيد وفير غدًا!
قال أحد المسنِّين مازحًا:
– يجب أن تصيدوا صيدًا كبيرًا. إن الصيد وحده يمكن أن ينقذ الطيبة من الموت!
وتحلقت المجموعة, بمَن فيهم الضيوف, حول عساف, وبدأ الإعداد لمشوار الغد.

 

قال عساف ليؤكِّد اتفاق الليلة الفائتة:
– لو ذهبنا إلى الحجل فسوف نرجع بأيدٍِ فارغة. قتلوا الحجل لمسافة ألف كيلو. أمَّا الكدري فقد تنكّح, أصبح يخاف من الرجال والأشباح, ويطير من مسافات بعيدة. لذلك يجب أن نذهب إلى أقصى مكان, وما دام معنا سيارات فسوف تطيّر كل مجموعة للأخرى.
توقف قليلاً وأجال عينيه في الوجوه حوله. كانت العتمة تملأ كل شيء, ولا تبيّن من خلالها سوى برقات سريعة للعيون أو توهج السجائر المشتعلة حين تمصّها الشفاه, قال عساف وهو يتحرّك:
– أنتم وحظّكم, أنتم وشطارتكم!
في غبشة الليل المتأخر كانت رياح ناعمة تملأ الكون وتخلّف نوعًا من البرودة اللذيذة, والرجال الذين انحشروا في السيارتين, كانوا أميل إلى الصمت والتأمل. صحيح أنهم تبادلوا بعض الأحاديث السريعة, لكنها كانت في مجملها للتغلب على الصمت والسأم, وفي محاولة لخلق تحريض متبادل, وبدافع الأمنيات قبل أي شيء. وعساف الذي جلس في سيارة الجيب, وكانت في المقدمة, كان شديد الصمت, ولم يجب عن الأسئلة التي وُجِّهت إليه إلاَّ بكلمات قليلة, كان يكتفي بأن يقول:
– اصبروا وسوف نرى!
بين فترة وأخرى, ولأن عسافًا هو الذي يعرف الطريق, كان يحدّد ويصدر الأوامر:
– يمين.
– يسار.
– مرة أخرى إلى اليسار!
والسائق الذي يستجيب بطاعة ودون اعتراض, كان يخطئ بعض الأحيان, فبدل أن يستدير إلى اليسار, كما طلب منه عساف, كان يستدير إلى اليمين, لكن ما يكاد يفطن إلى خطئه حتى يستدير بقوة ليأخذ الاتجاه الصحيح. والسيارة الخلفية, التي كانت تسير على مسافة بعيدة نسبيًّا, لتتجنب الغبار الكثيف المتطاير من الجيب, كانت ترى في كل حركة, في كل التفاتة, مفاجأة أو صيدًا, وكانت تتوقع باستمرار شيئًا. لكن عسافًا الذي عرف هذه الأرض بشكل جيد, كان هادئًا. وحين سأله أحد الجالسين في المقعد الخلفي إن كان الوقت قد حان لإعداد البنادق, أجاب بعصبية:
– الصبر مفتاح الفرج. اصبر!
– ألا يحتمل أن نجد أرنبًا أو ذئبًا?
– وهل بقيت أرانب?
– أتصور أن هذه الأرض أرض أرنب!
– لا تتصور!
وانقطع الحديث مرة أخرى. لم يكن يسمع خلال هذا الصمت سوى الدويّ الصاخب لسيارة الجيب, ولم تكن ترى إلاَّ المساحة التي يولدها النور القوي المنبعث من أضوائها.
إنَّها إحدى المرات القليلة التي يتوغل أبناء الطيبة وضيوفهم إلى هذه المسافة البعيدة في الصحراء. ومع كل ميل جديد تتغير طبيعة التربة ويتغير الهواء. فالمنطقة المحيطة بالطيبة متنوعة التضاريس, متفاوتة أشد التفاوت, إذ تبدأ ببعض الصخور السوداء, وكأنَّها حدود الطيبة من هذه الناحية, ثم تليها الكثبان الترابية التي تتخللها بعض الصخور الكلسية, ثم الأرض الحصبة الشديدة التنوع. وتتساوى في هذه الأرض قطع الحجارة الصغيرة مع التربة. وتظل هكذا, مع تفاوت بسيط, مسافة طويلة, حتى يقطعها وادٍ, وهذا الوادي يصبح خلال فصل الشتاء مجرًى للسيول والأمطار, ولا يكاد الإنسان يتجاوزه, وينعطف فجأة ناحية الغرب, ولمسافة ميل أو اثنين, حتى تبدأ الصحراء تظهر.
تبدأ الصحراء أوّل الأمر بخجل, وكأنَّها تكوَّنت في التو واللحظة, إذ ما تزال تحمل بعض ملامح الأرض التي تجاورها, لكن تدريجيًّا تتغير الأرض, لتصبح نسيجًا واحدًا متشابهًا وأقرب ما تكون إلى راحة اليد, من حيث الاستقامة, مع التواءات صغيرة ومتفرقة, وكثبان رملية تظهر وتغيب, بين فترة وأخرى.
حين بدأت الصحراء, قال عساف بصوت واضح:
– الذين على الشبابيك يمكن أن يملأوا بنادقهم. هنا يمكن أن نجد أرنبًا ضائعًا لم تصله بعد طلقات المجانين!
وبطريقة آلية, شديدة الاستجابة, سُمعت أصوات البنادق وهي تُفتح, ثم سمعت أصوات الخرطوش وهي تستقر. قال عساف, وهو يلتفت إلى الخلف, ويكلم الرجل الذي جلس في وسط المقعد الخلفي:
– حين نصل إلى مكان الصيد الحقيقي سوف تجلس مكاني … هنا!
سأل نعيم, وهو يسوق السيارة, وقد شعر بالخوف أن يتخلَّى عساف عنهم في هذه الصحراء الرهيبة:
– وأنت, يا عم عساف?
لأول مرة, منذ بداية الرحلة, ابتسم عساف, ونظر إلى السائق, ثم إلى الرجال الذين يجلسون في المقعد الخلفي. كانت بداية أضواء الفجر تنتشر بهدوء وتتسرب إلى داخل السيارة. وبعد أن تملَّى من وجوههم قال:
– أنا وكلبي على الأرض, وأنتم في السيارة.
سأله أحد الثلاثة, وكان جالسًا في الخلف:
– وكيف سنصيد?
قال عساف بسخرية:
– السيارة هي التي تصيد!
ولما أحسَّ أن أحدًا لم يفهم كلامه أضاف بلهجة مختلفة:
– بعد أن طارد الصيادون الطير وأتعبوه, بدأ يخاف من كل شيء, ولا يمكن أن يُصاد الآن إلاَّ بالسيارة.
توقف قليلاً, تطلع حواليه, وقال بلهجة جديدة:
– حين ترون رفًّا من الكدري أو القطا يجب أن تغيروا عليه بأقصى سرعة, وقبل أن يطير كله, قبل أن يبتعد, يمكن أن تأخذوا منه بعض الطيور!
سأل نعيم, ومقود السيارة يضطرب بين يديه حين أمسك البندقية:
– وأنت يا عم عساف?
نظر إليه عساف نظرة مشجعة وأجاب.
– لا تخف, سنبقي أنا والكلب على الأرض, والذي يفلت منكم, الذي يطير باتجاهي ويقترب, سوف يكون نصيبي!
بعد فترة من السير, ولما أحسَّ عساف أنه وصل المكان المناسب, نظر إلى الأفق نظرة دائرية واسعة ليتأكَّد. وبحركة من يده, مع غمغمة غير واضحة, طلب من نعيم أن يقف. ظنَّ الجميع أن عسافًا رأى صيدًا, لأنَّ الوقفة السريعة التي وقفها نعيم خلقت شعورًا قويّا بالمفاجأة, لكن عسافًا وهو يفتح الباب, ويطلب من الكلب النزول, قال بهدوء وكأنَّه يلقي موعظة:
– يجب أن نبقي في دائرة, وهذه الدائرة قد تتسع وقد تضيق, لكنها تبقي دائرة, والطير لن يبعد كثيرًا. ما عليكم إلاَّ أن تعرفوا كيف تساعدون بعضكم بعضًا, ويجب أن يفهم جماعة السيارة الثانية هذا.
بعد قليل وصلت السيارة الثانية, ووقفت بهدوء إلى جانب الجيب, ولكي لا يترك عساف الأمر غامضًا, قال بصوت عال:
– سنبقي أنا والكلب على الأرض, وأنتم, كل في اتجاه تطاردون الطير, والكدري في مثل هذا الوقت لا يخاف وهو بطيء الطيران, ويمكن أن تصل السيارة إلى وسط الرف ولا يطير, وإذا كنتم صيادين فسوف يكون الصيد كثيرًا!
وأضاف كأنَّه يخاطب نفسه:
– أعتقد أن أحدًا غيرنا لم يصل هذا المكان منذ فترة طويلة, وما دام الطير غير مضروب فإنَّه لا يجفل, وسيكون الصيد كثيرًا!
قال أحد أبناء الطيبة:
– الأفضل أن تبقي معنا يا أبا ليلى, السيارة واسعة ويمكن أن نتصيد على مراحل.
– الأفضل أن أبقي على الأرض.
توقف لحظة ثم أضاف:
– والأخ يجلس هنا.
وأشار إلى الشخص الذي يجلس في وسط المقعد الخلفي, يطلب منه أن يتحوَّل ليجلس مكانه!
وبعد فترة صمت قصيرة, ولكي لا يترك مجالاً لأي مناقشة, تابع:
– الأفضل أن تكونوا في السيارات, وأن تساعدوا بعضكم بعضًا: كل سيارة تطيّر للسيارة الثانية, وأنا على الأرض, لأنَّني بهذه الطريقة أعرف كيف أصيد!
وخلال بضع دقائق, وبتوضيحات عديدة ومتزايدة, خاصة من أبناء الطيبة الذين يرافقون الضيوف, وبمشاركة قصيرة, لكنها حاسمة وشديدة الوضوح من عساف, تمَّ الاتفاق على كل شيء. وقبل أن تتحرك السيارتان, كل واحدة باتجاه, مدَّ نعيم إلى عساف بعلبة من الخرطوش, وأطفأ أنوار السيارة.
وبدأت رحلة الصيد!
هواء الصباح الطري يملأ الكون بنعومة خائفة أقرب إلى اللذة الراعشة, وهذه اللذة تتسرب إلى العظام مباشرة. أمَّا المدى الفسيح, بلا نهاية, فيولد رهبة خاصة لا تولدها إلاَّ حالات ولحظات معينة في الكون والطبيعة. الصحراء المترامية, بذلك اللون الرصاصي في غبش الصباح, لا يماثلها إلاَّ البحر. أمَّا الشعور بالضآلة والانتهاء, ثم الاندماج مرة أخرى, فلا يتولد إلاَّ في عصف الرياح المجنون وفي الأمطار الغزيرة التي تبدأ لكي لا تنتهي. وشعور الظلمة الذي يلف كل شيء, ويجعل المخلوق, خاصة إذا كان بشرًا, ضئيلاً متلاشيًا, فإنَّه يطغى على الإنسان في الصحراء أكثر مما يطغى في أي مكان آخر, حتى ليشعر الإنسان أنه متروك ووحيد, إلى درجة لا تخطر على باله. ومن شعور الوحدة يتولّد الخوف والرهبة والانتظار ورغبة التخفي والصراخ والاتحاد مع شيء ما وآلاف المشاعر الأخرى التي تعجز عنها كل الكلمات.
حتى في الأوقات التي يكون الإنسان مع الآخرين, يحس أنه في الصحراء وحيد, وأنه يواجه عدوًّا أقوى منه آلاف المرات. وهذا العدو لا يمكن أن يقاوم, لكن من الضروري مصادقته, أو الاحتيال عليه, والإذعان إلى شروطه.
هكذا كان شعور الصيادين وهم يواجهون هذا العالم لأول مرة. حتى الذين جاءوا برغبة لا تقاوم للصيد, وضمن أي شروط, داخلهم الخوف واستقرت في قلوبهم رهبة غامضة, (ماذا لو ضعنا?), (ماذا لو غرزت السيارات في الرمال الصاخبة الملعونة?), (وهذه الطيور, ألم تجد مكانًا غير هذا المكان البائس لتعيش فيه?).
وفي مثل هذه الظروف يصبح الإنسان, مهما امتلك من القوى, ومهما عربدت فيه التحدّيات, أقرب إلى الضآلة. يتمنى لو كان أكثر عقلاً ولم يدخل هذه التجربة. حتى الصيد في هذا المكان الفسيح الموحش له طعم مختلف, يصبح أقرب إلى المغامرة الخطرة يمارسها الإنسان برغبة إثبات القدرة والتأكُّد من الوجود, أكثر مما تحمل من لذة المطاردة والانتظار والانقضاض. ففي الصحراء يمتلك صفات تنفجر في داخله فجأة. يمتلك صفات التواضع ومحاولة التعرُّف والصبر. ويتطلع إلى كل ما حوله بحيرة أقرب إلى التساؤل.
أمَّا إذا انفجرت رفوف الكدري كما تنفجر القنابل بين الأرجل, فإنَّ الإنسان نفسه يصبح مخلوقًا آخر يتحوّل فجأة إلى إبله يطارد ظله, إلى إنسان يعارك نفسه ويريد أن يقضي عليها قبل أن يقضي على الغير, فيغادره الخوف وتزول منه الرهبة ويتحوّل بين لحظة وأخرى إلى وحش من نوع خاص. فإذا تجاوز هذه اللحظة, ومضى عليها زمن طويل, فإنَّه ينظر إليها بنوع من الإعجاب يصل حد الغرور, ويتساءل بزهو: (هل دخلت هذه التجربة وخرجت منها سالمًا?). (هل يشبه صيد الصحراء أي صيد آخر في الكون?).
هكذا بدأت الرحلة. وأي محاولة لاستعادة تلك اللحظات تقف عاجزة بائسة أمام هذا الملكوت الشامخ الذي يملأ كل شيء.
فالسيارتان حين بدأتا الحركة تملَّك كل مَن فيهما خوف مفاجئ, ولم يستطع أي إنسان من البشر السبعة الذين كانوا محشورين فيهما أن يقول شيئًا ذكيًّا أو أن يتصرف تصرفًا واضحًا مقصودًا.
كانت حركة السيارتين بطيئة أول الأمر, وبلا اتجاه. وكان السائقان, وكل واحد في أي من السيارتين, ينظر إلى الآخرين, ينظر إلى الذين حوله وينظر إلى السيارة الأخرى, ولقد امتلأ بمشاعر الخوف والانتظار, وتملكته في لحظات معينة مشاعر الندم أنه جاء إلى هذا المكان, وإلى هذا النوع من الصيد. وبرغم أن المسافة بين السيارتين لم تكن بعيدة. ولا تزيد على بضع مئات من الأمتار, فإنَّ حالة أقرب إلى العجز سيطرت على الجميع في الوقت الذي ظلَّ فيه عساف مزروعًا في الصحراء وشبحه يبتعد ويختفي كل لحظة. أمَّا كلبه الذي كان واضحًا خلال بعض الوقت, فقد أخذ يبتعد ويصغر حتى تلاشى تمامًا!
في إحدى اللحظات العمياء, وعلى غير انتظار, انفجر رفّ من الكدري. بدا في عتمة النور الأولى أشبه بالطيور الأسطورية. كان لانفجاره دوي هائل, وظلَّ هذا الدوي وقتاً طويلاً, لا يملأ الآذان والعيون فقط, بل أيضًا يستقر في القلوب ويسيطر عليها. أمَّا الطلقات الخائرة المرتجفة التي توالت, الواحدة بعد الأخرى, فلم تخلف شيئًا سوى موجة من الدخان الأزرق تلاشى تدريجيًّا مع رياح الصباح.
إنَّها المفاجأة الأولى. وإذا كان كل واحد من الصيادين الذين كانوا في سيارة الجيب, والذين التقوا بهذا الرفّ, قد امتلأ إصرارًا وتملكته مشاعر الخيبة, فقد قال الجميع كلمات بائسة لتبرير الفشل. أمَّا صيادو السيارة الأخرى فنظروا بحسرة وحقد, وقرَّروا في أعماقهم ألاّ يكونوا خائبين بهذا المقدار. والكلمات العرجاء التي تبادلها ركاب السيارة الجيب, فيما بينهم, لتبرير هذه الخيبة, قابلتها شتائم وتحديات من ركاب السيارة الأخرى!
إنَّها التجربة الأولى. ومثل كل التجارب الفاشلة, وفي جميع المجالات, يتولّد في الإنسان نوع من الإصرار أقرب ما يكون إلى الرعونة, إذ ما كاد ذلك الرفّ يتلاشى في الأفق مبتعدًا حتى أسرعت السيارتان معًا, وخيَّم التحفّز الحذر على الجميع. امتدت البنادق أكثر من السابق, وبرقت العيون بالحقد.
وأبناء الطيبة الذين عرفوا أنماطًا كثيرة من الصيادين, وكانوا شديدي الحذر والدقة في أن يطلقوا أي كلمات أو أوصاف لتقييم الصيادين الآخرين, كانوا متأكّدين من شيء واحد: مَن لا يعرف الصحراء, مَن لم يرَ هذا الطير, لا بدَّ أن يُصاب بالخيبة بعد الرحلة الأولى. لم يقولوا هذا الكلام مباشرة, لكنَّهم كانوا واثقين بهذا الاقتناع, خاصة وأن أغلب الضيوف الذين جاءوا, وادَّعوا كثيرًا, وأسرفوا في الحديث عن الطيور التي صادوها, وعن الأماكن التي ذهبوا إليها, أثبتت التجربة شيئًا مختلفًا. إذ كثيرًا ما ادَّعى الصيادون أن جبال الطيبة أقسى من أي جبال رأوها, وأن حجل الطيبة ملعون إلى درجة أنهم لم يروا حجلاً آخر مثله. كانوا يقولون ذلك حين يصعدون إلى الجبال. أمَّا إذا ذهبوا إلى ممرات الترغل, وعادوا بصيد قليل, فكانوا يعزون ذلك إلى أسباب وهمية وأقرب إلى الغباء. الآن, في هذه الصحراء الفسيحة, هذا الطير الذي يرونه ينفجر أمامهم ويثير استفزازهم, لا يعرفون أي أكاذيب يمكن أن يقولوها لتفسير هذه الخيبة! ولكنها عادة من عادات الصيادين, حين يندفعون برعونة زائدة إلى التحدي, ثم إلى التبرير, وأخيرًا إلى الكذب!
بعد الرفّ الأول طار رفّ ثان. ومثلما واجهت سيارة الجيب عددًا من الرفوف وطار بعضها حول السيارة, وكأنَّه كان داخل قفص ثم انفلت فجأة, فإنَّ السيارة الأخرى قابلت عددًا مماثلاً, وربما أكثر قليلاً. وإذا كان لصيادي هذه السيارة بعض المعاذير, حول ضيق الشبابيك, وعدم إمكانية التحرُّك بسهولة, فإنَّ صيادي سيارة الجيب كانوا أقل قدرة على التبرير.

 

 

كانت السيارتان, وهما تبحثان عن دائرة لتدورا فيها, تمتلئان بنوع من الحرج أقرب إلى الخجل, وفي بعض اللحظات أقرب إلى الخوف. فبعد أكثر من ساعة, وبعد أن طارت عشرات الرفوف من الكدري, وكانت الحصىلة ثلاثة طيور في الفولكس فاكن, وطيرين في سيارة الجيب, تملكت الجميع رغبة في توسيع قطر الدائرة, في محاولة لاكتشاف مجال واسع والعودة بصيد أوفر. كانوا يشعرون بنوع من الخجل, وكان كل واحد متأكدًا أنهم لو عادوا إلى عساف بهذه الحصىلة, بعد كل الطلقات المجنونة التي ملأت الفضاء, فسوف يسخر منهم. وهذا الشعور لم يقتصر على ركاب سيارة واحدة, أو على واحد من الصيادين فقط. كان شعورًا ضمنيًّا صامتًا, لم يستطع أحد أن يقوله, لكن كل واحد تصرَّف بدافع منه وتحت تأثيره. حتى الرغبة أو الكلمة, التي يقولها أي واحد في الذهاب إلى هذا المكان أو ذاك لم تكن تجد اعتراضًا من أحد. كان الجميع يمتلئ خوفًا, خاصة وأن كل واحد قدَّر أن عسافًا قد اصطاد مئات الطيور!
وعلى الرغم من قوة هذه المشاعر وسيطرتها الغامضة, فإنَّ مشاعر أخرى كانت ترفع رأسها بين لحظة وأخرى: الخوف من الصحراء, والتيه في هذا البحر القاسي الذي ليس له بداية وليس له نهاية!
حين ارتفعت الشمس في السماء بضعة أذرع, وارتفعت معها الحرارة وارتفع الغبار, شعر الجميع برغبة اللقاء مرة أخرى, مهما بدا هذا اللقاء قاسيًا مريرًا, خاصة وأن عسافًا كان قد نبَّههم إلى أن الكدري مع تقدم النهار يرحل, وأنه يذهب إلى أماكن بعيدة بحثًا عن الماء والطعام. وأن الصيد خلال النهار من الصعوبة وعدم الجدوى إلى درجة كبيرة.
وبطريقة غامضة مليئة بالتردُّد, بدأت السيارتان تتجهان إلى منتصف الدائرة. وإذا كان لكل مكان في الدنيا دائرة, ولها منتصف, فإنَّ الصحراء ملعونة إلى درجة الرجم, لأنَّ كل ذرة منها دائرة, ولأنَّ كل مكان منتصف الدائرة. ومع ذلك, وبمعرفة أبناء الطيبة باتجاه الريح, وتذكّرهم أن ريحًا غربية كانت في بداية الرحلة, بدأت الدائرة تضيق تدريجيًّا, وبعد ساعة من البحث, ومن النظر المدقق, رأت سيارة الجيب زوالاً بين السواد والزرقة, ودون تردُّد قال أحد أبناء الطيبة:
– عساف… ذاك هو عساف!
وبلهفة أقرب إلى الوجد, ودون تساؤل أو انتظار, اتجهت السيارة نحوه, وبعد دقائق كانت السيارة الأخرى قد وصلت.
كان عساف منبطحًا على الرمل, والكلب قريبٌ منه, وكانت البندقية ملقاة إلى جانبه, وكأنَّها لا تعنيه. كان يعبث بالرمل ويبتسم ابتسامة خفيفة, أمَّا الطيور التي اصطادها فقد كوَّمها مثل تل صغير إلى جانبه, وكانت مناقيرها باتجاه واحد…
حين نظروا إلى تل الطيور أُصيبوا بذهول حقيقي, كانت بالنسبة لهم تلاًّ مستحيلاً, رقمًا مستحيلاً. أمَّا حين بدأوا بإنزال الطيور من السيارتين فقد نظر إليها عساف بدهشة أقرب إلى الاستغراب, لكنه بسرعة لملم دهشته, وقال بطريقة أبوية للتخفيف عنهم:
– الصيد في السيارة يحتاج إلى التعوُّد, والرفوف التي كانت تطير من عندكم كانت تأتي إلى هنا!
أمَّا حين سأله أحد الضيوف عن عدد الطيور التي صادها فقد قال بتواضع:
– حوالى العشرين, لم أعدّها.
ولم يسأل عن العدد الذي صادوه, كان همَّه الأساسي أن يتأكّد إذا قابلوا رفوفًا كثيرة أم لا? وإذا كانت قريبة أم بعيدة, وهل ضُربت من قبل أم أنها طارت بعد أن وصلوا إليها?
عند هذا الحد كان من الممكن أن تنتهي رحلة الصيد. ولو ترك الأمر لأبناء الطيبة أو لعساف لاقترح أن يعودوا, وإلى جانب صخرة في الوادي الذي اجتازوه يمكن أن يستريحوا, وأن يأكلوا, وكان من الممكن أن يقال إن هذا الصيد كافٍ, وسوف تنظّم رحلة صيد ثانية, في مرة أخرى. لكن الأمور, في أغلب الأحيان, تسير بطريق لا يقدره الإنسان ولا يتوقعه. وإذا كان الضيوف هم الذين يحكمون, وهم الذين يقرّرون, فإنَّ أهل الطيبة امتلكوا خلقًا رفيعًا بحيث لا يمكن أن يفصحوا عمَّا يريدونه مباشرة. وعساف الذي قال مجاملة ولكي يبعد أي إمكانية للبقاء:
– الصيد انتهى, فمنذ الآن وحتى الغروب, لن نجد رفًّا واحدًا, وإذا وجدنا أي رفّ فسوف يطير من مسافة بعيدة, ولا يمكن لأي إنسان أن يأخذ منه طائرًا واحدًا.
وبعد أن تبادل أبناء الطيبة النظر فيما بينهم, ومع عساف, نظروا في وجوه الضيوف, ثم اقترح أحدهم اقتراحًا وجد هوًى عند الضيوف دون تردُّد:
– يمكن أن نذهب الآن حيث يريد عساف, وبعد أن نتغدى ونستريح نقوم بمشوار صغير قبل الغروب, وبعدها نعود إلى الطيبة.
لم تكن الجلسة, في الوادي, تحت ظلال الصخور, مريحة, إذ رغم رطوبة المكان, كانت ريح الصحراء شديدة اللفح والحرارة, وكانت تحمل معها, بين فترة وأخرى, ذرات من الرمال تسفّ وتتكوّم على المنحدرات الواطئة, غير المنتظمة, والتي تشكل مجرى السيول أيام الشتاء.
في هذه الجلسة, والتي شرب خلالها الجميع, وتحدّثوا عن أشياء لا حصر لها, كان عساف في البداية أقرب إلى الصمت. وفي المرات القليلة التي تكلم فيها, تحدّث بشكل غير مفهوم, وكأنَّه يحدّث نفسه. أما عندما سُئل عن الحيوانات التي صادها, وفي أي أماكن, فقد اكتفى بأن يقول:
– ما فائدة الحديث عن الأشياء الماضية, ما دام الإنسان غير قادر الآن على أن يصطاد أي حيوان?!
وحين ألحُّوا عليه أن يحدِّثهم عن أكثر مرة صاد فيها, وعن عدد الطيور والأرانب التي صادها, قال بحدّة:
– لا تنظروا إليّ كوحش, أنا إنسان, نعم إنسان مثلي مثلكم, وليس بيني وبين أي مخلوق عداء من أي نوع. فإذا كانت الطيور والحيوانات تغريني وأُطاردها, فلأنَّني أشعر بحاجة أكثر مما أشعر بلذة. وحتى لو كانت هناك لذة, فإنَّها لا تصل بالإنسان إلى حدود الإبادة والفتك. حتى الذي يرغب في امرأة, ويريد أن يعتصرها بين يديه إلى الأبد, فإنَّه غير قادر على أن يفعل ذلك بلا حدود. أمَّا إذا كان أحمق, وإذا فعل شيئًا لا يناسب الطبيعة البشرية, فلا بدَّ أن ينتهي بشكل ما. وأنا… عساف الذي لا يعرفه أهل الطيبة إلاَّ تائهًا في البراري, ولا يلاحق إلاَّ الطيور والحيوانات, أنا عساف الفهد, لا أرغب في الصيد لمجرد القتل ولا أصيد أكثر ممّا يجب إلاَّ في الأوقات الضرورية.
كان يريد أن يتحدث أكثر, وبطريقة أفضل, لكنه لم يستطع. أمَّا الأفكار التي دارت في رأسه وملأت عقله وهو مستلق على جنبه, وكلبه بقربه, فقد كانت كثيرة إلى درجة لا يستطيع أن يحاصرها, أن يقولها. وحتى لو أراد أن يتكلم فإنَّ كلماته تبدو غامضة فجة, وقد لا يفهمها أحد. وحين شرب كأسًا جديدة وامتلأ نشوة شعر بأنه يستطيع أن يتكلم بشكل أفضل, خاصة وأن الآخرين قد تكلموا دون أن يطلب منهم أحد ذلك, ودون أن يكون لكلامهم أي معنى أو ضرورة. لقد تكلموا بتلك الطريقة الفخمة المليئة بالأكاذيب, والتي لا يتقنها إلاَّ المتعلمون وأبناء المدن. فكَّر أكثر من مرة في أن يصرخ, أن يضحك بسخرية, لكنه ابتلع أكثر ما كان يريد أن يقوله, واكتفى بأن ينظر إلى الوجوه, وأن يراقب التصرفات.
كان عساف في ذلك اليوم حزينًا إلى درجة لا يتذكر معها أنه حزن بهذا المقدار, وشعر بأن ثقلاً أقرب إلى الصخرة يجثم على صدره. وإذا كان قد تعوّد أن يصدر الأوامر إلى الصيادين الأغرار, وأن يقودهم في المسارب الضيقة ويتقدّمهم في المعاصي, ليثبت لهم بطريقة ما أنهم ما زالوا بحاجة إلى وقت طويل لكي يتعلموا معنى الصيد, وأن يتصرفوا بطريقة مليئة بالحكمة والذكاء, ويميزوا بين الطيور التي تُصاد وتلك التي يجب أن تُترك لتعيش, إذا كان قد تعوَّد ذلك ومارسه بمكر, ولأسباب غامضة في بعض الأحيان, فلقد كان في هذا اليوم أقرب إلى الاستسلام واليأس, وكان مستعدًّا لأن يفعل ما يريده الآخرون.
لو أن عسافًا تماسك في لحظة معينة, لو أنه رفض بإصرار, مثلما تعوّد, الاستجابة إلى رعونة الشباب وخفتهم, لو أن الحزن فارقه واليأس لم يسيطر عليه, لو أن الخمرة لم تتصاعد أبخرتها القوية الحادة إلى الرؤوس في هذا اليوم الصيفي, لو أنَّ المكان كان غير هذا المكان, لما حصل شيء. لكن قوة خفية, أقرب إلى البلاهة, ولعلَّها حكيمة بمقدار لا يدركه عقل الإنسان, هي التي قرَّرت كل شيء!
فقبل أن ينتصف النهار, وبعد أن استراحت القافلة أكثر من ساعتين بدا الزمن لضيوف الطيبة الذين أتوا من المدينة, شيئًا مختلفًا عمّا يحسّه أهل الطيبة, ومًن عاش في مثل هذه الأماكن. إذ ما كاد أحدهم يقترح العودة إلى الصيد, حتى استجاب الآخرون بسرعة وسهولة. وكأنَّهم اتفقوا على ذلك من قبل. وعساف الذي نظر إلى أبناء الطيبة نظرة تساؤل, وجد في عيون هؤلاء استسلامًا حائرًا, وبدا أنهم غير قادرين على اتخاذ أي قرار, وأنهم يمثلون دورًا أقرب إلى الحماقة, ويستجيبون لأي رغبة يطلبها هؤلاء الأفندية.
بعد تردُّد لم يطل, نهض عساف وبلهجة مليئة بالسخرية والتحدِّي, قال يخاطب كلبه:
– لا يتعلم الإنسان إلاَّ بالتجربة, أمَّا الحيوانات فإنَّها تتعلم أشياء كثيرة ثم تورّثها إلى أولادها وحًفًدتها, وبهذه الطريقة تدافع عن نفسها وتواصل الحياة. أمَّا الإنسان…
وضحك بسخرية, وبلا مناقشات طويلة اختار عساف مكانًا جديدًا, قال ليقنع نفسه:
– قد لا تكون الطيور هناك مضروبة, وقد نجد بعض الأشواك تستظل بها, ونحن وما قُسِم لنا!
وبالطريقة نفسها, وبالإصرار نفسه, حين وصل إلى المكان الذي يراه مناسبًا للصيد, أوقف السيارة وأنزل كلبه, ثم نزل.
لم يتكلم هذه المرة أي كلمة, لم يكرز بأي موعظة. أمَّا حين قال أحد أبناء الطيبة بصوٍت عالٍ لينبّه الجميع:
– سنلتقي هنا بعد ساعة وأقصى حد ساعتين, لأنَّ الطريق إلى الطيبة طويل, ويجب أن نصل مبكرين.
حين قال الرجل هذه الكلمات, هزَّ عساف رأسه دلالة الموافقة, ولوَّح بيده بطريقة دائرية, وقد فُهمت تلك الحركة على أنَّه سيبقى في منتصف الدائرة, وفهمت على أنَّها تحية.
الشمس تنزلق من السماء مثل رصاص مصهور, والرمل أكثر سخونة من الجمر, حتَّى الكلب وهو ينقل أقدامه تصدر عنه أصوات ضعيفة أقرب إلى الاستغاثة أو الاحتجاج, أو كأنَّه يمشي على أشواك حادة أو زجاج مكسور. وحين أقلعت السيارتان بسرعة خلفتا وراءهما سحابة كبيرة من الغبار, لفَّت عسافًا فبدا جزءًا من الصحراء الممتدة بلا انتهاء. أمَّا الكلب فقد عوى احتجاجًا وركض لمسافة وراء إحدى السيارتين, ثم عاد ببطء.
وإذا كانت الطبيعة بجبروتها غير المحدود, في البحار والمحيطات, على قمم الجبال وفي أعماق الأودية, في الأصقاع المتجمدة وفي ظلمة الغابات- إذا كانت الطبيعة في كل هذه الأماكن تنذر بالتحول وتبعث بإشارات من نوع ما, بأن ذلك العنفوان الداخلي لم يعد يقوي على الاحتمال وسوف يقلب جلده في اللحظة التالية, فالصحراء الغامضة القاسية الموحشة المفاجئة تتجاوز قوانين الطبيعة لتثبت هذه القوانين. فلم تمض ساعة حتى جُنَّت الدنيا: هبَّت ريح قوية عاصفة غيَّرت كل شيء. كانت الزوابع تدفع الكثبان الرملية وتسفّها كما تفعل الرياح بالأمواج, فتتدحرج الرمال بسرعة كما لو أنها كتل من القطن الهش أو بقايا أوراق محترقة, حتى إن الإنسان ما أن يستدير قليلاً ليتَّقي هذا الجنون المفاجئ حتى يمتلئ حلقه وتمتلئ عيناه بذلك الجمر الصغير الناعم وكأنَّه سقط من نار لا تعرف التوقف أو الانطفاء.
إن ما حصل في ذلك اليوم الصيفي, في أعماق الصحراء, وعلى مسافة غير قصيرة من الطيبة, لا يمكن أن يستعيده أحد دون أن يبكي. فالخوف الذي ملأ الدنيا خلال تلك الساعات كان من القوة والذهول إلى درجة أن لا أحد يستطيع أن يتذكر ما حصل. حتى الكلمات تبدو باهتة عاجزة, ولا تعبِّر عن أي شيء. وأبناء الطيبة الذين كانوا يعرفون بغريزتهم طبيعة الصحراء وقسوتها, من رائحة الهواء, من لمعان السماء القاسي, من الزوابع التي تجاوزت الوادي وعبرت السهل كله حتى وصلت إلى الطيبة… إن هؤلاء لم يصدقوا الهول الذي يرونه أمام عيونهم. إنَّه شيء لم يشهدوا مثله طيلة حياتهم. والضيوف الذين أصابهم الهلع, والذين فقدوا القدرة على التصرُّف, تحولوا إلى مجموعة من الدمى المتوسلة الباكية. كانوا يريدون شيئًا واحدًا: ألاّ يموتوا!
وفي غمرة الخوف يفقد البشر القدرة على التصرُّف, فبدل أن يوقفوا السيارات وينتظروا, كانت العواصف الرملية القاسية هي التي تحرّكهم, هي التي تقودهم. وفي المرات القليلة التي توقفوا فيها وجاءت الزوابع حاملة الرمال الساخنة, صرخوا برعب, وشعروا بالموت يطبق على رقابهم. ودون انتظار وبدوافع غريزية حاولوا الهرب. وإذا كانت الجيب قد ظلت محتفظة بقوتها وقدرتها على السيطرة, فإنَّ السيارة الأخرى بدت مثل سلحفاة ضالة لا تعرف إلى أين تذهب أو متى تموت. وحين قال أحد أبناء الطيبة بأنَّ الأمر أصبح خطيرًا إلى درجة تتطلب بقاء السيارتين معًا, فقد شعر الجميع بنوع من الراحة. ولم يكتف سائق الفولكس فاكن بأن يبقي قريبًا, بل أصرَّ على أن يمشي قبل الجيب, وعلى مسافة أمتار قليلة منها.
انتظار الموت في هذه الصحراء أصعب من الموت آلاف المرات. فالموت هنا لا يأتي فجأة, لا يأتي متنكرًا, ولا يأتي بسرعة ويقضي على كل شيء, وإنَّما يكشر عن أنيابه في البداية ثم يقف على شبابيك السيارات, وبين لحظة وأخرى يعربد, يصرخ, يلطم الوجوه, يسفّ حفنة من الرمال في الأفواه والعيون. وبعد أن يمل من هذا المزاح يتراجع قليلاً, ليُقعي مثل ذئب, انتظارًا لجولة أخرى. والجولة الأخرى لا تنتظر طويلاً, إذ تصعد مثل البخار مسرعة جارفة قوية, فتولد يبوسة في الحلوق, هلعًا في العيون, انتظارًا آخر قاسيًا ممضًّا, بالخشونة الكاوية نفسها, بالجبروت نفسه الذي لا يعرف التراجع, يدقّ الشبابيك مرة أخرى دقّات قوية متواصلة.
وبين انتظار وانتظار يموت الإنسان, يموت ألف مرة, يفقد الثقة, تتلاشى إرادته, يسقط, ينهض, يترنح, يمتلئ حلقه بأدعية خائفة لا يعرف كيف أتت, يصرخ دون صوت, ينظر في وجوه الآخرين ليرى وجهه, يتذكّر, يقاوم, ينهار, يسقط. يموت مرة أخرى, ينهض من الموت, يتأمل الأمتار القليلة التي يمكن أن تُرى عبر الشبابيك, يلامس حبات الرمل المتسربة في كل مكان, يملأ حلقه بجرعة ماء ويستبقيها لأطول فترة لعلَّها تمدّه بمزيد من القوة على المقاومة, على الصمود, يفقد القدرة على الحديث, يفقد القدرة على ابتلاع الماء, يتحوّل الماء إلى ملح, يتحول الزبد إلى زبد, يريد أن يصرخ, أن يموت تمامًا, يريد أن تنشقّ الأرض فجأة وتبتلعه, يريد ماءً, ظلاًّ, وينتظر!
حتى الزمن في الصحراء يكتسب معنى آخر, يتحوّل إلى ذرات صغيرة, الثانية, والدقيقة هي كل الزمن. ثم يبدأ ذلك الزمن بالتفتت إلى ما لا نهاية, كالصحراء بلا نهاية, ويطبق كالخيط المبلول القاسي, يشدّ دون توقف على الرقبة, يحزّها لكن دون أن يقطعها أو أن يبقيها, ويظل هكذا موتًا مؤكّدًا منتظرًا ساخرًا مؤجّلاً, فيحسّ الإنسان بالاختناق, وتتصاعد ضربات القلب, وترتفع درجات الحرارة, ويتحوّل لون الوجوه إلى الزرقة, ولا يستطيع الواحد أن ينظر إلى الآخر خوف الانفجار أو العويل.
والحرارة المنبعثة من الأرض أو المنزلقة من شمس السماء المتوحشة لا تترك للإنسان لحظة من التوازن والتفكير. فالظلمة حين تطبق تجعل الإنسان يحس بضآلةٍ متناهية, ويتضاعف رعبه مئات المرات.
فبعد انتظار طويل طويل, لعل الريح تهدأ وتصبح الرؤية ممكنة, بدت الشمس تميل نحو الغروب, لم يرها أحد تفعل ذلك, لم يرها أحد تنزلق مثلما تفعل في البحر, لكن من النور الباهت المتداخل مع ذرات الرمال, من ذلك الانكسار التدريجي في الحرارة, يتولّد شعور بأن الشمس أخذت هذا السمت بعد أن ظلّت مثل حبل المشنقة فوق الرؤوس طوال ساعات النهار.
أي حوار في مثل هذه اللحظات مستحيل, لأن الصراعات داخل قلب كل إنسان كانت من الكثافة والتناقض إلى درجة يمكن ان تولد الشيء ونقيضه, وتدفع الإنسان لأن يفعل الشيء ونقيضه. فالحرارة المنبعثة من الشمس, والتي كانت أشد الأعداء, بدت حنونًا مضيئة حين أخذت الشمس ذلك الميل منذرة بالانتهاء. أمَّا النور الوهاج الذي كان ينفجر من كل الأشياء خلال ساعات النهار كلها, فقد أصبح حلمًا ضائعًا والظلمة تطبق تدريجيًّا. والرياح التي كانت تحدّد الاتجاهات, ويمكن أن تقود الإنسان إلى مكان معين, تحوَّلت في ظلمة المساء الأولى إلى عويل ولطمات عمياء.
إنه الموت ولا شيء غيره, هكذا قال كل واحد في نفسه. والإنسان في لحظات اليأس المطلقة حين يوافق على كل شيء, حتى على الموت, فإنَّه يريده صاعقًا كاملاً نهائيّا, أما ذلك العري الحاد الفاضح في كل شيء, الدمار الذي يفتّت الخلايا بقسوة تشبه النهش, فإنَّ هذا النوع من الموت لا تمتلكه سوى الصحراء في الليل, وفي فيضان الرياح الذي لا يعرف التوقُّف أو الراحة.
هذا هو الإنسان, ذلك المخلوق الضئيل المتلاشي, في مواجهة قوة غاشمة لا تدمّره ولا تتركه!
قال أحد أبناء الطيبة بصوت مخنوق:
– الله يساعدك يا عساف.
قال الذي جلس إلى جانب السائق مكان عساف:
– صحيح, أين عساف?
وغاصت الكلمات في الأفواه مرة أخرى, وخيَّم الصمت, لكنه ذلك الصمت المدوي الذي ينفجر في كل لحظة, في كل شيء, والذي تسمع ولولته في كل الخلايا

 

 

في وقت ما, ولا أحد يمكن أن يحدّد متى كان ذلك الوقت, وكم من الزمن قد مرَّ, بدأت الريح تتراجع, وبدأ عصف الرمال يخف شيئًا فشيئًا, وإن ظلّت السماء مكتنزة بذلك السواد الثقيل القاهر, وحين بدأ سائق السيارة الجيب يشعل الأضواء ويطفئها, فقد بدت حركة ذكية مليئة بالمعاني. قال الجالس إلى جانبه:
– لا بدَّ أن يرانا أحد ويأتي لإنقاذنا!
قال ابن الطيبة الذي يجلس في المقعد الخلفي وراء السائق:
– يجب أن تشغل السيارة وتدور عدة مرات لعلَّ عسافًا يرانا أو نراه فنذهب إليه أو يأتي إلينا!
دون مناقشة ودون تساؤل, بدأت السيارة تدور مثل حيوان مربوط. وبين لحظة وأخرى, كان السائق يشعل النور ويطفئه, لعلَّ شيئًا يحصل وتكون فيه النجاة.
قال ابن الطيبة:
– إذا وجدنا عسافًا يمكن أن ينقذنا ونعود إلى الطيبة بسهولة, أما إذا لم نجده…
وسكت. تطلعت إليه العيون دون أن تراه. وإذا كانت الظلمة قد خلقت خوفًا من نوع جديد, وإذا كان الشعور بالنجاة بدا مثل خفقات قلب مريض, فإنَّ هذه الكلمات انفجرت داخل السيارة وكأنَّها نهاية كل شيء!
يقول الذين وصلوا عصر اليوم التالي في ثلاث سيارات, إحداهما لسلاح البادية, وعثروا على السيارتين, إنهم وجدوا أغلب الرجال بين الحياة والموت. كان عدد منهم فاقدًا الوعي, وكان الآخرون في حالة من الإعياء الشديد. أمَّا سيارة الفولكس فاكن فقد انغرزت إطاراتها الخلفية في الرمال وأصبحت في حالة من الإنهاك إلى درجة أنها لم تعُدْ قادرة على الحركة, ووجدوا الحبل الذي حاولت الجيب استعماله لسحبها قد تقطّع في عدة مواضع, أمَّا كمية المياه التي كانت في السيارتين فقد نفدت تمامًا, ولم تبقَ إلاَّ أوان فارغة يخشّ فيها الرمل, ويقول هؤلاء إنهم لو تأخروا ساعة أو أقل لمات جميع مَن كان في السيارتين. أمَّا حين بدأوا يرشّون على وجوه الرجال الماء, وبدأوا يكلمونهم, لم يستطع أي من الرجال السبعة أن يتكلم كلامًا واضحًا, كانت غمغمات أقرب إلى أصوات الحيوانات. ولقد بكى اثنان من الرجال السبعة, أحدهما من أبناء الطيبة, ولم تعرف أبدًا أسباب ذلك البكاء, وهل كانت تعبيرًا عن فرح أو عن شيء آخر!
وبعد بضع دقائق, ورغم الإلحاح في السؤال عن عساف, لم يستطع أحد أن يجيب.
لكن قائد الرجال الذين كانوا في السيارة العسكرية قال بلهجة لا تقبل المناقشة:
– ابقوا في أماكنكم, لا تتحركوا أبدًا, وسوف نجد عسافًا.
قال أحد رجال البادية وكأنَّه يطمئن الجميع:
– لا بدَّ أن يكون قريبًا, وسنجده!
وبخفة متناهية قفز إلى البيك آب, دون أن يحس أحد, مختار المنطقة الشرقية, وأخذ مكانًا حصينًا قريبًا من القمرة, وأمسك بالحديد الأمامي بقوة.
كانت الصحراء الممتدة بصفرتها المائلة إلى زرقة مثل حلقة لا أفق لها ولا نهاية. وحين انطلقت السيارة بدوي مفاجئ صرخ الذي بكى من الضيوف, وركض وراءها, ثم سقط على الأرض وأخذ بالعويل, وحتى حين حُمل وأُعيد إلى السيارة وأُعطي قطرات من الماء, ظلَّت دموعه تتساقط دون توقف, ثم غطَّى وجهه بيديه وأجهش, وظلَّ كذلك فترة طويلة.
كان الحشد الكبير ينتظر, وكان الأمل لا يزال قويًا في العثور على عساف. وإذا كان الصمت, في حالات كثيرة, أفضل وسيلة للتعبير, فقد ظلَّت أسئلة الرجال الذين جاءوا من الطيبة بلا إجابة, وإن كانت إجابتها واضحة قوية في الوجوه, في الحركات, في الشفاه المتشقّقة المفطورة. أمَّا حين سقطت بعض الدموع فقد كفَّ الجميع عن الكلام. وانشدّت العيون إلى كل الاتجاهات لعلَّها ترى بشرًا أو زوالاً, وكان أمل واحد, مثل نسمة باردة, يخفق في كل صدر, وارتفعت ابتهالات لا تخطر على بال ولا نهاية لها, وكانت أقرب إلى التمتمة وتشبه الدعاء, أن يكون عساف حيًّا وأن يجدوه.
لقد انبثقت في تلك اللحظات آلاف الصور في أذهان الرجال الذين ينتظرون. وتلك الصور, وإن بدت متداخلة مضطربة, وأقرب إلى الحلم, فإنَّ صورة عساف كانت أشدها وضوحًا وأكثرها بياضًا: حين كان يعود بعشرات الطيور ويوزّعها بمهارة لا تخطئ. حين كان يمزّق بعض المواضع من أحذيته وثيابه. حين كان يجمع الخرطوش الفارغ من الصيادين الأغرار ويتأمله بعناية ثم يحضره بعناية أكثر ليستعمله في اليوم التالي ويتأكّد بنفسه من قوته. ثم لمَّا تخلَّى نهائيًّا عن الخرطوش المصنوع من الورق المقوي واستعاض عنه بخرطوش النحاس, وكيف كان يحتفظ ببعض هذه الخراطيش في جيب جلدي صغير لصقه على صدره, كيف كانت الطلقات تبدو شديدة اللمعان ولا يستعملها, كما يقول ويؤكِّد, إلاَّ (لقتل الوحوش) – إن هذه الصور, وعشرات غيرها, تمرّ في هذه اللحظات مثل شريط طويل, وكل إنسان متأكّد أنَّ عسافًا ستنشقّ عنه الأرض وينفجر فجأة كما تنفجر الطلقة. وأهل الطيبة الذين تعوَّدوا على عساف وغياباته التي قد تطول يومين أو ثلاثة, حين تحاصره الثلوج أو يفيض الوادي, إذا كانوا قد تعوَّدوا عليه وألِفوا كل شيء يصدر عنه, فقد كانوا متأكّدين تمامًا من شيء واحد: سينفجر عساف بينهم, وأن السيارة حين تعود يائسة مثقلة بالخيبة والحزن ستجده وسط المجموعة, يتحدّث بتلك الطريقة المبهمة, الحافلة بالأصوات غير المفهومة, عن رياح البارحة وعن جنون الطبيعة وغدر الصحراء, ويجب أن يضيف في النهاية: الإنسان أقوى من الطبيعة, ويعرف كيف يروّضها أو يحتال عليها!
كانت الأفكار والصور تتلاحق, وكانت النسمات الطرية التي بدأت تهب مع ميلان الشمس نحو الغروب تولد أملاً يقوي كل لحظة, وتولد يأسًا يقوي كل لحظة. وفي خضم الأفكار والصور, ومع كل نسمة جديدة كانت العيون تدور, والصمت يقوى, إلى أن جاءت تلك الصرخة المفاجئة المدوية: – هذه هي السيارة!
لحظات قاسية من التوتر أقسى من أي لحظات أخرى وأشد عذابًا من عمر بأكمله. لم يبقَ أحد في مكانه, حتى أولئك الرجال المتعبون, والذين لفَّت على رؤوسهم الخرق المبللة, شعروا بنوع من التحدِّي والقوة, فمَن لم يستطع النهوض والركض مع الآخرين تجاه السيارة, تحرَّك في مكانه أو غيَّر جلسته ليشهد عسافًا وهو ينزل.
كانت وجوه الرجال وهي تطل من فوق شديدة القسوة والصرامة, وللحظات والسيارة تقترب ثم تتوقف, تأكَّد الجميع أنهم لم يجدوا عسافًا. لقد غمرته الرمال وابتلعته الأرض ولم يبقَ منه أثر, لكن فجأة, والمختار يمسك الحديد الأمامي, ويهزه بعصبية أول الأمر, ثم يصرخ ويشير إلى الخلف.
ترك الرجال يستديرون حول السيارة. التفت بصلابة وبطء, حتى إذا نظروا ورأوا عسافًا هكذا, صرخ, كان صراخه أقرب إلى الشتيمة:
– راح عساف … ونحن الذين قتلناه. راح الغالي.
كان منظرًا مفجعًا مليئًا بكآبة خرساء وأقرب إلى عدم التصديق.
كان عساف في قاع البيك آب, كان هناك, كان يابسًا متخشبًا وقد تقلَّصت عضلات وجهه وبدت على أطراف الشفتين ابتسامة هي مزيج من الألم واليأس والسخرية, وبدا كأنَّه يريد أن يتكلم! وحين استمر المختار في الهياج ثم البكاء, واتضحت الصورة حادة نازفة متجبرة, سمعت أصوات نشيج مكتوم, وتساقطت الدموع. كان لسقوط الدموع رنين قوي موجع وكأنَّه نهاية لفترة طويلة من الزمان!
كيف يمكن للبشر أن يصمتوا بهذا المقدار ولهذه الفترة الطويلة? كيف يستطيعون نسيان جميع الكلمات والأصوات التي بدأوا الحياة بها وهم ينقذفون من الأرحام?
كيف, كيف يمكن ذلك?
طوال الطريق الذي استمر أكثر من ساعتين, ظلُّوا صامتين!
والمختار الذي ظلَّ واقفًا في مكانه, قابضًا بقوة على حديد القمرة, وناظرًا إلى الأمام باستمرار, طلب من قائد السيارة العسكرية التابعة لقوة البادية, بكلمات متلجلجة, لكن واضحة أيضًا, أن يذهب الجميع إلى بيته. حصل ذلك حين توقَّفت السيارة في مدخل الطيبة, وحين بدت جموع الناس وهي تنتظر, وتحاول أن تعرف أي شيء حصل.
قال المختار, في الظلمة التي تخيّم على كل شيء, ولا يستطيع الإنسان أن يميِّز الآخرين إلاَّ من أصواتهم:
– تعالوا إلى بيتي, هنالك سوف نلتقي.
وبطريقة خفية حافلة بالحنان والعذوبة والخوف والتقديس, حُملت جثة عساف إلى الداخل. وُضعت في صدر المضافة, ووضع إلى جانب الرأس فانوس, وقريبًا من يده اليمنى وضعت البندقية, وبحركات آلية, كأنَّها رُتِّبت منذ وقت طويل, وبعد أن تمَّ ذلك بهدوء وإتقان, طلب المختار من الجمع أن يجلسوا.
الصمت, الصمت, ولا شيء غير الصمت, وما عدا النظرة الثقيلة الحافلة بالحزن, والمرتسمة على تلك الوجوه الملهوفة المتسائلة, فإنَّ الطيبة من أعجب الأماكن وأكثرها غرابة, لا تستطيع أن تفضح عواطفها بسهولة, وحتى لو أرادت أن تقول شيئًا فإنَّها كثيرًا ما تقول ذلك الشيء بطريقتها الخاصة, والتي قد لا تبدو مألوفة أو مفهومة!
لم يتجرأ أحد أن يسأل المختار, أمَّا رجال البادية الذين ساعدوا في حمل الجثة, فقد قال العريف الذي يقودهم:
– سوف نذهب ونجهز التقرير لرفعه غدًا صباحًا.
ودون انتظار تحرَّكت السيارة, وغادرت المكان!
والمختار الذي كان بادي العصبية, ومحمرّ العينين, والذي كان يتحرَّك في بعض الأحيان حركات طائشة لا تعني شيئًا, كان يقاوم في نفسه ذلك الكابوس الذي لا يطيق أن يحتفظ به ولا يقوي أن يعبِّر عنه. وهو إذ كان قد برع في كل الأوقات على أن يدير الحديث, وأن يتكلم بطريقة لا يحسنها غيره في الطيبة, والذي كان يوصف بأنَّه قادر على أن يرشّ على الموت سكرًا, ويقدم أصعب الأمور وأكثرها مشقة, بأيسر الوسائل وأكثرها قبولاً, بدا تائهًا ضائعًا خائفًا, وبدا شديد العصبية بحركات يديه ووجهه. أمَّا حين انتظم مجلس الطيبة, كما لم يحصل ذلك من قبل, ووسط الصمت القاسي الذي خيَّم على كل شيء, انفجر صوت المختار, دون أن يطلب إليه أحد, ودون مقدّمات من أي نوع:
– هذا عساف… إنه أمامكم, انظروا إليه.
وهزَّ رأسه بلوعة, دون أن يلتفت, ثم تابع بلهجة يخنقها البكاء:
– عساف الحصان, عساف الغيمة, أبو الفقراء, الذي لا ينام ساعة في الليل من أجل أن تعيش الطيبة وتبقى… عساف الذي يحب الجميع, ويقتل نفسه حتى يستمرّ الناس… عساف زينة الرجال, ترككم الآن, ترككم وحيدين تحاربون (…) العسكر والجراد, ولا أحد يعرف أي قوي أخرى, وماذا سيحصل!
كاد أن يواصل, خاصة وأن كلماته نزلت إلى قلوب الرجال وكأنَّها السكاكين الملتهبة, فحركت الرؤوس ودفعت حبات من الدموع لكي تتساقط بصمت, لكن فجأة تغيّرت أفكاره واضطربت:
– ما فائدة الكلمات الآن? يمكن أن نكرز من هذه اللحظة وحتى يوم القيامة, لكن كل يوم يسقط منا الرجال, وتسقط البيوت فوق رؤوسنا وتقطع الأشجار بأيدينا, ولا يتغيّر شيء!
قال رجل مسنّ يريد أن يغيِّر الموضوع:
– حتى هذه الساعة لا أصدّق أن الرجل مات.
قال المختار:
– انتظر, وسوف ترانا, واحدًا بعد آخر, نهوي على وجوهنا وتطمرنا الرمال, وقد لا نجد مَن ينقّط في حلوقنا قطرة ماء.
وقَهقَهَ المختار بطريقة تختلط فيها السخرية بالنشيج, وبالحزن الكاوي, ثم أضاف:
– تمامًا كما حصل مع هذا الحصان!
قال رجل وهو يصوِّب عينيه إلى عساف ولا يرفعهما:
– لكن كيف مات? كيف حصل ما حصل?
قال المختار وهو يغيِّر جلسته, لأن الموضوع يحتاج إلى بعض الحركات والإشارات, ولكي يخلق في نفوس الناس التأثير المناسب:
– اسمعوا, كدنا نعود, يئسنا من البحث, درنا في كل مكان, بحثنا في كل الأمكنة التي تصوّرنا أنَّ عسافًا ذهب إليها, خاصة وأن السيارات لم تذهب بعيدًا, ومقبل, الذي يعرف الصحراء شبرًا شبرًا, قال إن هذه هي أماكن الصيد, وعساف باعتباره صيادًا يعرف أين يذهب, ولا يمكن أن يذهب أبعد من ذلك. بحثنا, بحثنا, وقائد البادية, وقف أكثر من مرة على ظهر قمرة السيارة وتطلع في كل الاتجاهات مستعملاً ذلك المنظار الذي يرى الإبرة من مسافة طويلة, لكن لا شيء. ومقبل, الذي يملك عيون صقر, تطلع في كل الاتجاهات, ولكن لا شيء. كدنا نعود. كنا متأكّدين أن عسافًا دُفن تحت الرمال ولا يمكن لأحد أن يراه. لكن فجأة بدأ مقبل يخبط قمرة السيارة بقوة.
توقَّفت السيارة, نزل القائد, ونزل السائق, ومقبل ظلَّ ينظر باتجاه معين. بدا متردّدًا أوّل الأمر, لكن فجأة صرخ: – يجب أن نتجه إلى الناحية اليسرى, لأنَّني أرى نسرًا, لست متأكِّدًا تمامًا, ولكني رأيت نسرًا يحوم, وما دام هذا الطير يعلو وينقضّ بهذه الطريقة فلا بدَّ أن هناك شيئًا!
وقبل أن يكمل مقبل كلامه, وضع القائد المنظار المقرّب على عينيه, حيث أشار مقبل, وهزَّ رأسه دلالة الشك أوّل الأمر, ثم بدا متأكّدًا, وبسرعة طلب من السائق أن يتوجه ناحية اليسار.
لمسافة كبيرة بدت الأرض مثل راحة الكف, لا شيء أبدًا. والنسر الذي لم يكن يرى أوّل الأمر, بدا مثل نقطة سوداء في الفضاء البعيد, كان يصعد ويهبط. وحين رأيناه أوّل مرة, غاب ثانية. تصوّرنا الأمر كله وهمًا, وأن مقبلاً لم يرَ شيئًا, لكن والسيارة تتجه حيث يريد, والسكون يخيِّم على كل شيء, والأرض خاوية لا تظهر شيئًا أبدًا, بدا على مسافة بعيدة زوال. قال مقبل بتأكُّد جازم:
– (هذا النسر حطَّ على شيء, ويجب أن نصله لنتأكّد!).
وأسرعت السيارة, وتعلَّقت عيوننا حيث يشير مقبل, وفي كل دقيقة نقترب أكثر فأكثر حتى تأكِّدنا من وجود النسر. كان من مسافة بعيدة يبدو جالسًا مثل رجل. كان بسواده القاتم شديد الوضوح, وترتفع قامته شيئًا فشيئًا ما دمنا نقترب. وحين أصبحت المسافة بيننا لا تزيد على مئات الأمتار طار. بدا ضخمًا مهولاً, وبان البياض في لونه إلى جانب السواد.
ومع كل خطوة تقتربها السيارة, حيث كان النسر يربض, بدت لنا الصورة أكثر وضوحًا وقسوة مما كنا نتصور.
كان عساف مدفونًا في الرمل, لم يكن يظهر إلاَّ رأسه, وفوق الرأس تمامًا كان الكلب رابضًا, وكان الجزء الأكبر من جسد الكلب مدفونًا بالرمل أيضًا, لكن بطريقة غريبة للغاية: كان يشكل سياجًا حول جسد عساف, خصوصًا رأسه. كان يحتضنه.
ولما وصلنا رأينا كل شيء واضحًا.
قال مقبل بثقة:
– عساف مات قبل الكلب, ولا بدَّ أن بعض الطيور, ربما هذا النسر أو غيره, أحسَّت وعرفت بذلك, وجاءت لتأخذ نصيبها منه, لكن الكلب, وفي محاولة لحماية عساف صارعها حتى صرعته. انظروا إلى الدماء المتجمدة فوق رأس الكلب, لقد مزَّقته بمناقيرها لتصل إلى عساف, وفيما هو يدافع عن نفسه, وعن عساف, تهشَّم, ولا بد أن يكون قد مات من العطش أو من النهش).
قال مقبل ذلك وامتدَّت يده إلى الرمال تزيحها وتسحب جثة عساف. الجثة مدفونة بالرمل تمامًا. المطرة فارغة, وعساف يقبض على البندقية بقوة, ولا بدَّ أن يكون قد قام وسقط عدة مرات, لأنَّ يده اليسرى ملتوية ومزرقّة. ومن حسن حظه أنه سقط على وجهه, لو كان في وضع آخر لأَكَل النسر عينيه وهشِّم وجهه, والكلب حين رأى عسافًا يسقط نام فوقه: لا بدَّ أنه حاول إنقاذه بشكل أو بآخر, لكن العاصفة كانت أقوى من الاثنين!
بهذه الطريقة انتهى عساف.
سكت المختار, وضع يديه تحت صدغيه, كأنَّه يحاول أن يمنع رأسه من السقوط أو كأنَّه يتذكر. وخيِّم صمت ثقيل. وبصوت مختلف تمامًا, صوت من عالم آخر, أضاف:
– كان بودِّي لو حملنا الكلب معنا, كان يستحق ذلك, لكن لم أجرؤ على طرح الفكرة, بدت لي لا تناسب الموقف ولا يمكن أن يفهمها أحد. أمَّا حين حملنا الجثة ووضعناها في البيك آب, فقد ظللت على الأرض لبعض الوقت, وكنت أنظر إلى الكلب. لم أستطع أن أرفع نظري عنه, لكن قائد السيارة العسكرية, قال بصوت عصبي, وإن كان فيه بعض القسوة: (لم تنته مهمتنا بعد, علينا أن نصل إلى الجماعة…). ولما صعدت إلى السيارة ومررت إلى جانب الجثة, نظرت إليها بإمعان, بدا لي وجهه شديد الحزن, ولا أعرف كيف سمعت صوت عساف, سمعته يقول: (والكلب…?! هل تتركون الكلب?) وبسرعة, وبخوف اقتربت من الجنديين اللذين كانا في مقدمة السيارة, ولم أستطع أن أنظر بعد ذلك إلى الخلف. كنت خائفًا, كنت خائفًا تمامًا من أن أرى عسافًا, أو أن أسمع كلماته, وسيطر عليّ الخوف أكثر عندما مالت الشمس إلى المغيب, وتصوّرت الذين ينتظرون, وتصوّرت الطيبة والبشر ولا أعرف أي أحزان أخرى).
قال أحد المسنّين, وقد بدت في لهجته رنَّة حزن لم يتعوّدها الكثيرون:
– كان من الواجب أن تهيلوا عليه التراب لكي لا تأكله الطيور!
رد المختار بعصبية:
– كان الواجب أن نأتي به.
قال الرجل المسن:
– لا يمكن أن تحمل الحيوانات حين تموت, لكن الأكرم لها أن يُهال عليها التراب.
هزَّ المختار رأسه وقد بدت عليه علائم الحزن الشديد والندم, ولم يتكلم.
قال صاحب الفرن:
– أعجب شيء في هذه الدنيا العلاقة بين الإنسان وما حوله من أشياء, من حيوانات وأشجار وبيوت وأنهار, حتى الصحراء التي لا تبعد كثيرًا عن الطيبة يتعلّق بها الإنسان في حالات كثيرة, لأنَّ فيها نجاته, ولولا ذلك لما ذهب عساف إلى هناك. كان يريد أن يخلص الطيبة, ويخلّصني أنا بالذات, لأنَّ الأرغفة القليلة التي أصبحت تخرج من الفرن لم تعد تكفي أحدًا.
قال رجل ظلَّ صامتًا, لكن دمعة سقطت حين بدأ يتكلم:
– في الطيبة, كما في أي مكان آخر من هذا العالم, ما يحتاج إلى تغيير هو الإنسان.
وصمت لحظة, جفَّف دموعه التي كانت تتساقط دون إرادة على خدّيه وأضاف: – لو أننا فهمنا ما كان عساف يقوله لكانت حالنا الآن أفضل.
قال أحد المسنّين:
– لقد رحل عساف, ذهب ولن يعود.
توقَّف قليلاً, ابتسم بحزن وكاد أن يتابع, لكن واحدًا آخر قال بعصبية:
– أغلب الأحيان تأتي الأشياء متأخرة!
قال شاب صغير لم يفطن أحد لوجوده طيلة الوقت:
– إذا ظلَّت الطيبة تنتظر المطر, ولا تفعل شيئًا سوى انتظار المطر, فسوف يموت الجميع كما مات عساف, وربما أسوأ!
قال المختار:
– أكبر ظلم لعساف أنَّنا تركناه يحارب وحده, حتى الكلب كان أحسن منا, لقد حاول إنقاذه, ونحن لم نفعل.
قال أحد الرجال:
– والله الأكثر ظلمًا أن نترك البشر, أمَّا الكلب فانظروا, هذه هي الدنيا! وتنهَّد بحزن ثم أضاف:
– كنت أعرف أنَّ عسافًا يريد أن يموت, وأنه سيقتل نفسه بشكل ما, إذا لم يكن في هذه الرحلة ففي رحلة غيرها, إذا لم يكن في الصحراء فتحت أكوام الثلج, وأنتم تتذكرون حياته كلها, تذكرون كم مرة ضاع وكم مرة بحثنا عنه.
كان يريد أن يواصل الحديث, لكن أحد المسنّين قال فجأة:
– يستغرب الإنسان أنه في حالات كثيرة لا يمكن التفريق بين الحيوانات والبشر. وربما كانت الحيوانات أفضل من بشر كثيرين. لكنَّني منذ جاء هذا الكلب إلى الطيبة تشاءمت وقلت لا بدَّ أن يقتل هذا الكلب.
قال المختار بحدة:
– الكلب لم يقتل عسافًا, نحن الذين قتلناه.
– لا يهم مَن قتل الآخر, المهم الآن أن عسافًا, الذي يرقد هنا, لا يسمع ولا يحس بوجودنا.
– قال المختار بحدة:
– لا, إنه يسمع. نعم إنه يسمع كل شيء, ويفهم كل ما يُقال!
قال أحد المسنّين:
– يا أبناء الطيبة, لا تكونوا حمقى أكثر مما يجب. الرجل انتهى الآن, ولا يمكن لأي قوة على الأرض أن تعيده, وليس غير الله قادرًا على ذلك, وإذا أردتم أن تكرموا عسافًا فدعوه نائمًا بسلام, واسهروا حتى الصباح, ومع أول أضواء الفجر نحمله إلى الأرض لنعيده اليها.
وبطريقة أقرب إلى الغموض والتحدي بدأت السهرة. بدأت بنوع من التكريم الذي لم تتعوده الطيبة من قبل, ربما نتيجة للخوف أو لبقايا اقتناعات ومواقف تجاه الموت. وبرغم أن شعورًا بالرهبة خيَّم على الجميع, وأن عددًا من الناس, بمَن فيهم الضيوف, كان يتمنَّى لو أن الأمر لم يأخذ هذا الشكل, لكن إزاء إصرار مبهم, وفي لحظة من لحظات الانفعال الشديد, قال المختار بعصبية:
– يجب أن تبقي معنا يا عساف لتشهد كل شيء.
وأدار رأسه, وعيناه مغمضتان, ويداه ترتفعان بطريقة تحمل معاني لا حصر لها, وتابع كأنَّه يخاطب نفسه:
– أنت لم تمُتْ, يا عساف, وستبقي معنا.
قال رجل من مكان بعيد:
– الحياة والموت بمشيئة الله يا جماعة, والآن انتهى كل شيء!
قال شاب بعصبية:
– عساف لن يموت, وهو الآن أكثر حياة منا جميعًا!
قال رجل مسن:
– لا تكفر يا ولدي, إن الملائكة ترفرف فوقنا الآن.
قال أبو زكور, الذي يبني كل شيء في الطيبة, حتى القبور, وبدا كلامه مليئًا بالذكاء والمكر, لكي يخرج الخوف من القلوب:
– يا جماعة, الصباح لا يزال بعيدًا, وعلينا واجب ثقيل غدًا, فإمَّا أن تقرأوا القرآن وتتحدثوا, أو ليذهب كل واحد إلى بيته ونعود في الصباح
قال المختار بعصبية:
– مَن يريد الذهاب, فالباب مفتوح.
ونظر في وجوه الناس ليرى وقع كلماته وتابع:
– أما أنا فلن أنام لحظة واحدة, وسوف أسهر في هذه الغرفة, إلى جانب الرجل, حتى يطلع النور ونحمله إلى قبره!
– أما أنا فلن أنام لحظة واحدة, وسوف أسهر في هذه الغرفة, إلى جانب الرجل, حتى يطلع النور ونحمله إلى قبره!
وبهذه الطريقة العجيبة بدأت سهرة من نوع لم تألفه الطيبة قط. تحدَّث أكثر الموجودين, تحدّثوا عن أشياء كثيرة, حتى الضيوف رووا قصصًا لم يفهمها أهل الطيبة جيدًا.
في تلك السهرة قيلت أشياء وأشياء, وعساف مسجًّى ووجهه مكشوف, والضوء يتراقص على وجهه وعلى وجوه الآخرين فيخلق جوًّا من الغرابة والخوف, والجنون أيضًا, والناس لا يريدون أن يتوقفوا لحظة واحدة.
وإذا كانت هذه الأحاديث قد توالت دون منطق, وربما دون ضرورة واضحة, ودون مغزًى أيضًا, فقد كانت الرغبة تسيطر على الجميع, أن يقاوموا الصمت, أن يقهروه.
تحدّثوا عن الكلاب والغزلان والحمير, تحدّثوا عن فيضان الوادي, وعن جفاف النبع, وتحدّثوا عن عساف وعن البشر, وتجرأ واحد وقال أبياتًا من الشعر, وكاد أحد الرعيان أن يستعمل نايه, لولا أن رجلاً مسنًّا انتزعه منه بقوة ونظر إليه نظرة تختلط فيها القسوة بالعتاب!
لا أحد يتذكّر بدقة الأشياء التي قيلت أو مَن قالها, لكن حين تذكر الطيبة, وحين تهجم الأحزان, وإذا جرى الحديث في وقت من الأوقات عن نهايات البشر والحيوانات, وحتى الأشجار, فلا بدَّ أن ترتد صورة تلك الليلة العجيبة لتذكّر بشيء واحدّ: بالنهاية!
حتى الضيوف الذين تخشَّبوا في بداية السهرة, وتقيّأ واحد منهم بعد أن نظر إلى الجثة الممدَّدة أكثر من مرة, فإنَّهم بطريقة غريزية أقرب ما تكون إلى حالة من حالات التطهر التي يلجأ إليها الإنسان في أوقات معينة, نسوا كل شيء, أو هكذا أوحوا لأنفسهم, وانساقوا في الدهاليز المظلمة التي قادهم إليها أهل الطيبة, وظلُّوا يسمعون ويتحدثون. لكن الخوف كان يربض في كل حركة, حتى حركة الأجسام وهي تستدير لتقاوم التعب والخدر, وحتى السعال الذي يأتي فجأة, ثم قطرات الدموع التي تتساقط دون إرادة, كانت تخلق الخوف والجفلة. ثم جاءت القصص التي قيلت تلك الليلة لتجعل الحزن ملتصقًا بالجلد والعظام, ولتحفر في القلوب مجرى عميقًا لا يتوقف عن النزف كلما ذكرت الطيبة, وكلما جرى الحديث عن الحيوانات, وحتى عن البيوت حين تتهدم, حتى عن الغبار المتخلف من كل شيء كانت له رائحة خاصة تذكّر بأحزان لا حدود لها

Share

Comments

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *